مفهوم الدولة المدنية يعاني من خلط شديد في كل نقاشاتنا، ويكاد أن يختزل تدريجيا في مجرد الحديث عن كون الرئيس القادم من خلفية عسكرية أو مرتديا بدلة الرجل السياسي الأنيقة.. بينما المدلول الحقيقي للمدنية أعمق مما هو مطروح على موائد المتنافسين على السلطة وألسنة محترفي الفضائيات وعاشقي الأضواء.. وكلمة «عسكرية» لا يقتصر معناها على وضع المسؤول وسجله في المجال الأمنى، وإنما تتجاوز ذلك إلى سلوك وأفعال وسمات نحن في أمس الحاجة إليها في المرحلة المقبلة من تاريخ الوطن إذا ما أردنا أن نغلق صفحة «الفترة الانتقالية» ونشرع فى كتابة سطور «حقبة الاستقرار والبناء».
والحديث عن هوية ربان السفينة الجديد بدأ تحديدا عام 2005 واللغط الذى أثاره الرئيس الأسبق حسنى مبارك بالمادتين 76 و77 أيام الدستور القديم عندما فكر في تفصيل قوانين تضمن له البقاء فى السلطة وتوريث الحكم لابنه جمال، ومنذ هذه اللحظة و«الرئيس المدني» صار مانشيت المنتديات السياسية والريبورتاجات الصحفية والتحليلات التليفزيونية، وجرى تجهيز المسرح على قدم وساق لاستقبال البطل الجديد في ثوب المدنية بعد أن تجرع الشعب تجارب ومقامرات العسكر منذ ثورة 52.. وكانت فرصة ذهبية لاعتلاء «الشاب جمال» السلطة في ثقة وأريحية لولا الغرور والانفصال النفسي والسياسي عن هموم وآلام البسطاء، وضعف الإدراك لفلسفة «الحاكم المدني» المفترض فيه التقرب من الشارع والنزول من البرج العاجي حيث القصور والمنتجعات والمشروعات القائمة على التربح واستغلال النفوذ، والالتحام المباشر مع مشاكل الناس وأزمات من يملكون رفعه على الأعناق وجلوسه على عرش السلطة.. وهبت رياح الربيع العربى لتنال مصر نصيبها وتضع الظروف «محمد مرسي» كأول رئيس مدني على الكرسي، إلا أن الفرصة ضاعت هذه المرة في عهد الإخوان في ظل المراهقة السياسية والإدارة الهشة والأيدي المكبلة أمام مشاهد انقطاع الكهرباء وطوابير السولار وحرب الخبز وتورط النظام في سياسة التمكين والأخونة والاصطدام المستمر بمختلف أطياف المجتمع والتيارات السياسية انتهاء بتحدى المؤسسة العسكرية والانسياق الأعمى وراء حسابات فصيل الجماعة.. وبالتالى غابت روح «المدنية» التي تفتحت عيونها في انتخابات الرئاسة عام 2012، وتعالت الأصوات المرحبة بعودة العسكر اقتناعا بأنها مرتبطة بعودة دولة النظام والضبط والربط.
علينا أن نعي أن الخطأ ليس في النظرية وإنما في التطبيق، فالحكم المدني من شأنه أن يقدم رجال دولة وكوادر تدرك قيمة العمل السياسي وترسيخ دور المؤسسات والقانون لخدمة وتطوير المجتمع، وإذا ما تحلى الرئيس المدني بسمات العسكر من قدرة على الفعل.. ونظام في العمل والتخطيط.. ودقة ونشاط في التحرك.. وترتيب مدروس للأفكار والأولويات.. وتجرد من «سقطات» الجنرالات المتمثلة في النظرة الديكتاتورية الأحادية للأمور والانفتاح على آراء الآخرين.. وتجنب أسلوب قمع المعارضة وتكميم الأفواه والتلويح بالعصا لترهيب المنتقدين.
من هنا.. هل يمكن أن نعيش حكمًا مدنيًّا يومًا ما؟ ومن ينجح في رفع لواء هذه الكلمة ليتفوق على طوفان العسكر. ويحل التاريخ؟ ..... من يا سادة؟