بصراحة ومن دون زعل، فإن السلطة فى هذا البلد تبدو للعبد لله فى اللحظة الراهنة هائمة متسكعة ومبعثَرة على الأرصفة تبحث عمَّن ينقذها من التفكُّك والتشرُّد ولو بالخطف والاغتصاب أو بزواج عرفى.. وهى حالة لو تدركون عظيمة الخطر.
هل تستغرب أو تستنكر، هذا الكلام وتُحاجّ وتجادل بأننا ربما نعانى هذه الأيام من فائض مظاهر قوة السلطة وأكثرها صلادة وخشونة هيَّجتها واستفزَّتها أجواء تلك الحرب الإرهابية القذرة وغير المسبوقة التى تشنها علينا «مجتمَعًا ودولةً» جماعة إخوان الشياطين وعصابات القتلة من أتباعها.. ثم هل تسأل كيف -بحق الله- نشكو سلطةً غائبةً بينما كل هذه المظاهر تملأ الأفق من حولنا؟!
يؤسفنى الإجابة بأن حُجَّتك صحيحة وملاحظتك فى محلِّها تمامًا، لكنها تثبت العكس تمامًا، إذ هى تؤكد غياب السلطة وتفكُّكها أكثر مما تدلّ على حضورها ووحدتها. لماذا؟ لأن ما تلاحظه هو، أولًا مجرد «مَظَاهر» للقوة قد تجرح وتتغاشم أو تتحامق أحيانًا (القبض على شباب أعزل ولو كان مُشتَطًّا فى آرائه، مثالًا فاضحًا على الحمق والغشم)، غير أنها فى أكثر الأحوال لا تخيف أحدًا ولا تحفظ نظامًا وإنما قد تُسهِم فى زيادة زحام عناصر الفوضى والارتباك التى نسكن فى قلبها حاليًّا.
ثم إن سلطة الحكم عندما لا يتبقى منها سوى مظاهر الردع والإيذاء وأدوات القوة المحضة العارية من أى سياسة (برامج ورؤى وأفكار وخطاب مقنع) تصير أقرب إلى بندقية عمياء تضرب فى أى اتجاه فتصيب الأعداء مرة وتجرح من الحلفاء والأصدقاء مرات. هنا تستحيل القوة الغشيمة أكبر منتج لأسباب ضعف السلطة وأوضح دليل على انفصال عقلها السياسى -إن وُجد- عن عضلاتها بحيث تصير هذه الأخيرة تتحرك وحدها وهى هوجاء طليقة من قيود الرشد والحكمة والعقل، ومن ثم تبدأ متوالية التأزيم المتصاعد وإلهاب التوترات المجانية الناجمة عن تراكم حوادث الاحتكاك الخشن وغير الضرورى بشرائح مهمة فى المجتمع، قد يكون وزنها العددى قليلًا لكنها الأشد حيوية و«ديناميكية» والأكثر استعجالًا وشوقًا لرؤية حلم بناء وطن جديد ناهض ومتطور ينعم أهله بالعدل والحرية، متحقِّقًا على أرض الواقع.. الآن الآن لا غدًا، ولا حتى بعد ساعة واحدة!
أعترف بأن الكلام السابق كله فيه كثير من العمومية وشىء ليس قليلًا من الحزلقة، وعذرى أن الأمر يحتاج إلى تفصيل وشرح طويل تضيق عنهما هذه المساحة المحدودة، غير أننى كتبت من قبل فى هذا المكان أن حالتنا الصعبة الراهنة لم تهبط على رؤسنا من السماء وليست وليدة قدَر لا فكاك منه وإنما لها أب وأم معروفان ولا يمكنهما التنصُّل من أُبُوَّتِهِما لهذه الحالة المأساوية، فأما الأب والأم وباقى العائلة الكريمة -ممكن تقول الكريهة- فهم باختصار ومن دون لفّ ولا دوران، نظام الأستاذ حسنى مبارك وولده، وورثته البؤساء الأشرار خصوصًا عصابة «إخوان الشياطين» وتوابعها الذين كانوا بدورهم أبرز وأسوأ وأخطر مخلفات الخرابة المجتمعية والسياسية الهائلة التى تركها الأستاذ المذكور خلفه بعد عقود من العفن والفشل والفساد.
وأختم بما يقوله أهل المنطق وأتباع الفلسفات العقلانية، أنه «لا حقيقة أقوى من الحقيقة القائمة بالفعل».. والحقيقة التى تكاد تفقأ عيوننا فى هذه اللحظة أن ثورتين عارمتين وأسطوريتين تفجرتا فى أقل من ثلاث سنوات خلصتانا فعلًا من مبارك والعصابة التى ورثته وحاولت أن تحافظ على تركة نظامه وتزيدها عفنًا وبشاعة، غير أنهما -ككل الثورات- لا تُفضِيَان آليًّا إلى تحقيق أهدافهما المشروعة، وإنما هما معًا مجرَّد مشهد افتتاحى صاخب لمهمة عسيرة وطريق شاقّ وطويل يجب أن نشرع بسرعة فى السير عليه بصبر وعقل ووعى عميق بأن الأحلام الرائعة لا تتحقق بالشعارات والهتافات الجميلة فى الشوارع، ولكنها تهبط من سماء الأمانى إلى أرض الحياة بجهد السواعد وابتكارات العقول النابهة النيِّرة.