إذا كانت لديك نسخة من دستورنا الجديد، فضعها على أبعد رف فى مكتبتك باعتبارها شيئًا زائدًا، أو تخلّص منها واقتنى بدلًا منها شيئًا أكثر فائدة، ولا تزعج نفسك بقراءته، والرجوع إلى مواده، لتتأكد من حقوقك التى ينص عليها.
فهذا الدستور مثل غيره من الدساتير السابقة مجرد حبر على ورق، لا تطبق مواده إلا حسب المزاج، كان دستور 1971 مليئًا بالمواد التى تحصّن الحريات وتحميها، وفى ظله تم الاعتداء على الحريات فى كل المناحى، التعذيب فى أقسام الشرطة كان ممنهجًا، والتمييز الدينى والاجتماعى كان سائدًا، رغم وجود مادة تقول (كل المواطنين سواء)، وقضايا مصادرة الأعمال الإبداعية وتكفير المبدعين ملأت المحاكم والنيابات رغم النص على حرية الإبداع والتفكير.
الآن يتكرر المشهد، عند صدور الدستور الجديد لم تخل وسيلة إعلامية من الكلام عن مزايا الدستور الذى يؤكد مدنية الدولة، وأن نصوصه تدفعنا للأمام، وقال أعضاء لجنة الخمسين الذين وضعوا الدستور إنهم أعدّوا دستورًا مدنيًّا وإنهم رفضوا مواد تجعل مصر دولة دينية، ولكن عند أول اختبار ثبت أن مصر دولة دينية يتحكَّم فى إبداعها رجال الدين، يحدّدون للمواطن ماذا يشاهد؟ وأى شىء يقرأ؟ فقد منع الأزهر فيلم «نوح» من العرض فى مصر، وقضت محمة جنح مركز ببا التابع لمحافظة بنى سويف، بحبس الكاتب والناشط الحقوقى كرم صابر، خمس سنوات، لأنه أصدر مجموعة قصصية بعنوان (أين الله)، حيث رأت المحكمة أن رجال الدين أقدر على تقييم الإبداع من الأدباء، فاستبعدت رأى اتحاد الكتاب، والذى أرسل إليها شهادة تشيد بالمجموعة القصصية، وتؤكد أنها تدعو للحب والسلام بين الناس جميعًا، وأخذت بوجهة نظر الأزهر ومطرانية بنى سويف للأقباط الأرثوذكس، بأن الكاتب يتهكّم على المقدسات ويبتكر قصصًا بعيدة عن الأدب السامى ومحتوى قصصه هادم للقيم الفكرية للمجتمع المصرى ويدعو للإلحاد ويسب الذات الإلهية، أخطر ما فى الحكم أن المحكمة تجاهلت المادة 76 من الدستور والتى تقول إن (حرية الإبداع مكفولة ولا توقع عقوبة سالبة للحريات فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى)، ويبدو أن المحكمة رأت أن اجتهاد رجال الدين ورؤاهم للأدب أقوى من الدستور، فاستجابت إليهم ومنعت المجموعة القصصية من التداول، وحبست كاتبها، ليصبح الدستور فعلًا حبرًا على ورق، فلا هو قادر على حماية حرية الإبداع والتفكير، ولا هو يستطيع صيانة حقوق المواطن، أما المشايخ فقد تأكد عمليًّا أنهم أقوى سلطة فى مصر، ولهذا يبسطون نفوذهم على المجتمع ويفرضون رؤاهم وأفكارهم.
والمشكلة ليست فى منع فيلم «نوح» أو مصادرة المجموعة القصصية، فمهما كانت قوة المشايخ، أو صدرت أحكام قضائية مماثلة، فإنهم لن يستطيعوا منع مَن يريد مشاهدة الفيلم أو قراءة القصص المصادرة، ومواقع الإنترنت ستضعهما على مواقعها قريبًا ويصبحان متاحين أمام الجميع.
المشكلة الحقيقية هى لماذا تجاهلت المحكمة نصًّا دستوريًّا؟ ولماذا رأت أن اجتهاد رجال الدين أقوى من الدستور؟
بداية قصيدة تطبيق الدستور كفر، فالدستور الذى تغنّينا به طويلًا، وقلنا إنه يضم أفضل مواد تحمى الحريات، تم انتهاكه، وما دمنا سكتنا على إهدار هذه المادة من الدستور فإن باقى المواد التى تحمى الحريات ستكون هى الأخرى حبرًا على ورق، وسنعود مرة أخرى إلى نفس النهج القديم، لدينا دستور عظيم فى مجال الحريات، ولكنه على الرف.