احتفلت مصر بعيد الفن بعد طول غياب.. كانت فرصة أهل الفن مزدوجة.. استعادة العيد من ناحية، وزوال كابوس الإخوان الذى خيّم على مصر خلال عام أسود من تاريخها بكل عداء إخوان الإرهاب للفن والإبداع والجمال.
ورغم أن الحرب لم تنته، والإرهاب الأسود ما زال يقاوم مصيره الحتمى، فإن الاحتفال كان بهيجا.. ولعل الحرب ضد الإرهاب أعطت الاحتفال معانى أكثر وقيمة أكبر.. فالإرهاب ما زال ينشر الدمار، وفى صباح نفس يوم الاحتفال كنا نقرأ آخر فتاوى الإرهابيين على لسان واحد يدعى العلم بالدين، وهو مطلوب للعدالة وهارب إلى إسطنبول أو الدوحة، ويقول فى فتواه إن إحراق سيارات الشرطة وقتل أفرادها هو من صحيح الدين، وهو قمة السلمية.. قرأت «فتواه» وتذكرت قصيدة شعر لعبقرى العامية المصرية بيرم التونسى، فى واحد مثله. يقول فى مستهلِّها:
أول ما نبتدى القول نصلى على النبى/ نبى عربى يلعن أبوك يا بخيت!!
ما يحدث من إخوان الإرهاب وحلفائهم يعطى لاحتفالنا بعيد الفن قيمة أكبر.. هم يدعون إلى الموت، ونحن نحتفل بالحياة.. هم ينشرون الدمار والكراهية والتعصب، ونحن نحتفل بالحب وندعو إلى الحياة، ونعرف أن الله جميل يحب الجمال.
احتفاؤنا بالفن قديم.. آثارنا عبر التاريخ شاهد على أننا شعب أدمن صنع الحضارة، وعرف أن الإبداع هو منحة الخالق لعباده، وأن الجمال لا يأتى إلا مع الحق والعدل وحرية الإنسان.
الاحتفال الرسمى بالفن وتكريم الفنانين، جاء مع ثورة يوليو.. قبلها منح الملك لقب الباكوية ليوسف وهبى، لأنه ابن باشاوات، ومنح قلادة سامية لأم كلثوم بناء على نصيحة مصطفى أمين، ليستعيد شيئا من الشعبية، بعد أن حاصرته الفضائح بعد حادثة القصاصين. اختلف الأمر بعد ثورة يوليو.. تفجر نهر الإبداع فى كل الميادين.. شهدنا نهضة مسرحية لم تحدث من قبل أو بعد.. عاشت السينما المصرية عهدها الذهبى.. وصل الغناء إلى ذروة لم نتجاوزها حتى الآن.. ظهرت أجيال جديدة أخذت فرصتها كاملة، إلى جانب العمالقة.. قاد ثروت عكاشة ثورة ثقافية أدخلت مصر إلى العصر الحديث، وزرعت الثقافة الرفيعة والفن الجميل فى كل مكان فى مصر.
كان الاحتفال بتكريم الفنانين يتم فى عيد العلم مع كل المبدعين فى كل المجالات، ثم انفرد الفنانون بعيد خاص لهم أيام السادات لبضعة أعوام، واختفى الاحتفال بعد ذلك لأكثر من ثلاثين عاما، ليعود فى هذه الظروف كإعلان عن انتهاء الكابوس الذى هدد الفن والثقافة والأدب والإبداع وكل شىء جميل فى مصر.
وإلى بعض الملاحظات السريعة على الاحتفال الجميل:
■ إطلالة فاتن حمامة كانت جميلة، وتحامل ماجدة على نفسها للحضور كان مؤثرا، وكذلك غياب نادية لطفى لظروفها الصحية، ووجود الكبار محمود ياسين، ونور الشريف، وحسين فهمى «مكرمين أو مشاركين» كان إشارة إلى أخلاقيات جيل احترم الزمالة وأخلص للفن.
■ ركز الاحتفال على الغناء والموسيقى والمسرح والسينما.. وغاب الفن التشكيلى، فهل يكون له مكان فى الاحتفالات القادمة؟ ثم هل سنشهد احتفالات مماثلة للإبداع فى مجال الثقافة والأدب، وفى مجال البحث العلمى والابتكار؟!
■ كان جميلا أن تغنى أنغام «أنشودة فلسطين» فى هذا الاحتفال. فلسطين هى قضيتنا وليست قضية المتاجرين باسم المقاومة الزائفة، أو الذين أرادوا تصفية القضية على حساب مصر، أو من يزرعون الإرهاب فى أرض سيناء، ويزعمون أنهم يحررون القدس بقتل الأبرياء من المصريين خدمة لأسيادهم من الصهاينة أو قياداتهم من إخوان الشياطين!!
■ قيل إن اختيار يوم الاحتفال بعيد الفن ارتبط بذكرى ميلاد الموسيقار عبد الوهاب. مع كل التقدير لعظمة عبد الوهاب ملحنا موهوبا، ومطربا لا يتكرر.. فإن الرمز الحقيقى للموسيقى العربية هو العبقرى الذى لا يتكرر، خالد الذكر سيد درويش.
اقتران عيد الفن بالعبقرى العظيم سيد درويش يعطينا الفرصة لأن يكون العيد مناسبة لإحياء فن الأوبريت، ولإعادة تقديم واحد من الأوبريتات العريقة التى لحنها فى كل عام، لنعيد الحياة إلى هذا التراث الفنى العظيم، ولنفتح الباب أمام إنتاج أوبريتات حديثة، أظن أنها الأولى برعاية الأوبرا فى الفترة المقبلة، وأظن أن الدكتورة إيناس عبد الدايم، رئيس الأوبرا، قادرة على توفير الإمكانات لها.
■ ويبقى عتاب صغير للصديقة الدكتورة درية شرف الدين، وزير الإعلام.. ألم يكن لدى التليفزيون «بطانية» يرسلها إلى المذيعة الخارجية التى جلست فى حديقة الأوبرا تثرثر مع الفنانين القادمين للاحتفال بثوبها العارى فى عز البرد؟!
كل عام ونحن نحتفل بالفن، ونثبت ما قاله شاعرنا الرائع جمال بخيت، فى الاحتفال، بأن «اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى.. وكان فنان». وكما بناها سابقا سوف يبنيها من جديد. بالعلم، والعمل، وبالحرية، والعدل، وأيضا بروح الفنان الذى يعشق الحياة والجمال، ويغنى فى حب الوطن.