طال الانتظار، وزاد الغموض، وتناثرت الشائعات حول أسباب تأخر صدور قانون الانتخابات الرئاسية الذى سبق للجنة الخمسين مناقشته دون اتفاق، وأحالته إلى مؤسسة الرئاسة لإصداره فى ظل غياب سلطة البرلمان الذى يتولى التشريع، تمامًا كما فعلت اللجنة مع القانون المنتظر صدوره قريبًا لتنظيم الانتخابات البرلمانية.
وعندما صدر القانون أخيرًا معتمدًا من الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، رئيس المحكمة الدستورية، جاء ليؤكد أن التعديلات الدستورية التى اصطف المصريون للتصويت عليها كانت مجرد حبر على ورق وكلام مزوق جميل لا يتم تطبيقه على أرض الواقع. قضاة مجلس الدولة المختصون فى مراجعة مثل هذه القوانين انحازوا إلى ما نصت عليه المادة (97) من التعديلات الدستورية من أن «التقاضى حق مصون ومكفول للكافة، ويحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء»، وبالتالى رفضوا تحصين قرارات اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية.
أما الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا، والتى استشارها الرئيس طواعية بعد أن ألغت التعديلات الدستورية الأخيرة الرقابة المسبقة لها على القوانين، فرأت جواز تحصين القرارات الصادرة عن اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، بدعوى أن لها صفتين إدارية وقضائية، ولم يروا تناقضًا فى أن يقوم نفس القضاة بالنظر فى طعون على قرارات قاموا هم باتخاذها. وبعد أن رأى بالفعل قضاة المحكمة الدستورية أنه يجوز تحصين قرارات اللجنة العليا، وعبروا عن ذلك صراحة وفقًا للمستشار الفاضل عدلى منصور، يتساءل كثيرون كيف يمكن لنفس القضاة النظر فى المستقبل فى أى طعون يتقدم بها المرشحون فى قانون الانتخابات الرئاسية؟ وقال مطلعون حضروا الاجتماع الأخير للرئيس مع قادة الأحزاب السياسية إن المستشار منصور كان منفعلًا للغاية فى الدفاع عن القانون، وحذر من أن رفض تحصين قرارات لجنة الانتخابات قد يؤدى إلى تأخير شغل منصب الرئاسة لستة أشهر كاملة فى وقت لا يحتمل فيه الوطن مثل هذا التأخير، كما أنه لم يعد يرغب شخصيًّا فى شغل منصب الرئاسة ويتوق للعودة إلى عمله كقاضٍ فى المحكمة الدستورية العليا. وتعمدت مؤسسة الرئاسة تسريب أخبار إلى وسائل الإعلام قبل انتهاء الاجتماع للإيحاء بأن جميع رؤساء الأحزاب السياسية الذين حضروا النقاش وافقوا على المبررات التى قدمها الرئيس لتحصين قرارات اللجنة العليا للانتخابات، وهو ما تبين لاحقًا عدم صحته. ولكن المشكلة فى القانون لا تتمثل فقط فى تحصين قرارات اللجنة العليا، ولكن هناك مواد أخرى لا تقل سوءًا ولا غرابة، خصوصًا فى ما يتعلق بالعقوبات المفروضة على مَن يقومون بمخالفة قواعد الدعاية والتمويل. فالمادة (49) تعاقب بغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تجاوز الخمسمئة ألف جنيه مَن جاوز الحد الأقصى المقرر للإنفاق على الحملة الانتخابية، والذى رفعته فجأة ودون مقدمات إلى عشرين مليون جنيه، وكأن مَن سيقوم بتجاوز هذا السقف بعشرات الملايين من الجنيهات سيهتم كثيرًا بدفع غرامة قدرها نصف المليون جنيه. وهذه هى نفس العقوبة المفروضة على مَن يتجاوز فترة الحظر المفروضة على الدعاية الانتخابية قبل يومين من التصويت، أو يقوم بنشر استطلاعات للرأى قبل خمسة أيام كاملة من توجه المواطنين للإدلاء بأصواتهم. وبينما تنص المادة (24) من القانون على أنه «يحظر تلقى أى مساهمات أو دعم نقدى للحملة الانتخابية، من أى دولة أو جهة أجنبية أو منظمة دولية»، فإن العقوبة المقررة لهذه المخالفة الجسيمة فى المادة (55) تتراوح ما بين 20 ألف جنيه و200 ألف غرامة فقط ومصادرة الأموال، أى أقل من العقوبة المفروضة على نشر استطلاعات الرأى وتجاوز سقف التمويل، رغم أنه من المؤكد أن تدخل دولة أجنبية لدعم مرشح بعينه أمر أكثر خطورة بكثير، إلا إذا كان الغرض طبعًا بناء مشاريع سكنية للفقراء ومحدودى الدخل. أما العقوبات المشددة، والتى قد تصل إلى حد السجن لمدة خمسة أعوام فتتعلق كلها باستخدام العنف فى حق القضاة المشرفين على الانتخابات وتعطيل عملية التصويت. أما مخالفات المرشحين أنفسهم وسعيهم إلى شراء الأصوات أو استغلال مؤسسات الدولة من إعلام ونقل وخلافه للدعاية لصالح مرشح بعينه، وحتى تلقى تبرعات من دول أجنبية، فكلها مخالفات يعاقب عليها القانون بالغرامات المالية. وأيًّا كانت الاعتراضات على القانون، والتى بلغت حد تهديد حمدين صباحى المرشح الوحيد المتبقى ذى المصداقية أمام المشير عبد الفتاح السيسى، بالانسحاب فى حال التمسك بمادة التحصين، فإن المادة (36) تقول للجميع إن يذهبوا باعتراضاتهم إلى الجحيم، و«يخبطوا راسهم فى الحيطة»، فالانتخابات سيتم إجراؤها فى جميع الأحوال، «حتى لو تقدم إلى الترشح مرشح وحيد أو لم يتبق سواه بسبب تنازل باقى المرشحين. وفى هذه الحالة، يعلن فوزه إن حصل على 5 فى المئة من إجمالى الناخبين المقيدة أسماؤهم فى قاعدة بيانات الناخبين،» أى اتنين ونص مليون مواطن. أذهلنى افتراض أن يكون هناك رئيس لمصر يتولى بمنصبه بدعم 5 فى المئة فقط من الناخبين. ولكن الخبير القانونى الدكتور نور فرحات زاد من دهشتى عندما أوضح أن تفسير هذه المادة يعنى أنه لو تحول الأمر إلى استفتاء، ولم يبق سوى المرشح الوحيد المنقذ القادر على ملء هذا المنصب، ووافق عليه 5 فى المئة من الناخبين، ورفضته عشرة فى المئة، فإنه سيتم إعلانه فائزًا بالمنصب.
لا أعرف كيف تم تمرير قانون بمثل هذا الكم من العيوب رغم خضوعه للمراجعة من قبل هيئات قضائية عديدة؟، ولكن لو حكمنا بمضمون قانون انتخابات الرئاسة، فمن المتوقع أن لا يقل قانون الانتخابات البرلمانية كارثية، وأنه سيضرب بدوره بعرض الحائط بمطالب الداعين إلى بناء دولة ديمقراطية تقوم على التعددية، وذلك لأن «أبانا الذى فى السماء» القابع فى غرفة فى مكان مجهول يكتب بها القوانين ما زال مصرًا أن ثورة لم تقم.