أنا العاشق السيء الحظ تمرد قلبي عليّْ .. أنا العاشق السيء الحظ .. نرجسة لي وأخرى عليّْ .. أمرّ على ساحل الحب.. أُلقي السلام سريعًا ..وأكتب فوق جناح الحمام رسائل مني إلي ....
لم يكن الشاعرالعربي الفلسطيني، محمود درويش، عاشق سيئ الحظ فقط، لأنه لم يتزوج من فتاة أحبها، أو لإخفاقه الاستمرار مع زيجاته وتفضيله أن يحيى وحيدًا، ولكن كان عاشق سيئ الحظ أيضًا في عشقه للوطن.. "فلسطين"، ذلك الوطن الُمحاصر الذي ينزف، وهو مكبلًا بقيود استعمار غاشم لا ينصرف ..
فيقول درويش : ما هو الوطن؟ .. هو الشوق إلى الموت من أجل أن تُعيد الحق والأرض، ليس الوطن أرضًا، ولكنه الأرض والحق معًا، الحق معك، والارض معهم،وحين امتلكوا الأرض بالقوة صاروا يتحدثون في الحق المكتسب, كان "حقهم" تاريخًا وذكريات,وصار أرضا وقوة، وأنت بلا قوة فقدت التاريخ والأرض والحق" .
وفي "عابرون في كلام عابر" يطالب درويش المحتل بالانصراف عن الوطن قائلًا :
درويش خلال إلقائه إحدى قصائده
أيها المارون بين الكلمات العابرة .. احملوا أسمائكم وانصرفوا .. وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا .. وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة .. و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا .. أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء ...
أما عن المرأة فيقول درويش : يقال لي كنت متزوجاً, لكنني لا أتذكر التجربة، ويواصل : " لم نصب بأي جراح انفصلنا بسلام, لم أتزوج مرة ثالثة, ولن أتزوج, إنني مدمن على الوحدة.. لم أشأ أبدا أن يكون لي أولاد, وقد أكون خائفاً من المسؤولية, ما احتاجه استقرار اكثر, أغير رأيي, أمكنتي, أساليب كتابتي, الشعر محور حياتي, ما يساعد شعري افعله, وما يضره أتجنبه .
وكان درويش قد تزوج مرتين، إحداهما كانت من رنا قباني -ابنة أخ الشاعر نزار قباني- إلا انهما انفصلا بعد بضعة سنوات، وتزوج في منتصف ثمانينيات القرن العشرين مترجمة مصرية واستمر الزواج نحو عام .
وعن علاقته بالحب فيقول : "أحب أن أقع في الحب, السمكة علامة برجي (الحوت), عواطفي متقلبة, حين ينتهي الحب, أدرك انه لم يكن حباً, الحب لا بد أن يعاش, لا أن يُتذكر ".
"عربي – عبري " جناس يُفرق بين حبيبين :
بين ريتا وعيوني بندقية .. والذي يعرف ريتا .. ينحني ويصلي لإله في العيون العسلية .. وأنا قبلت ريتا .. عندما كانت صغيرة .. وأنا أذكر كيف التصقت بي .. ثم غطت ساعدي أحلى ضفيرة .. وأنا أذكر ريتا .. مثلما يذكر عصفور غديره ... آه ريتا .
كانا درويش وريتا، طفلين يلعبان سويًا، ارتبطا وأحبا كل منهما الآخر، دون أن يدركا أن مجرد -جناس ناقص- ما بين كلمتي "عربي – وعبري " سيكون عائق لاستمرار حبهما، بل سيفرق بين قلب حبيبين إلى الأبد .
وتتناقض الروايات حول "ريتا " المرأة التي أسرت الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" فيقول : ريتا .. لا أعرف إمرأة بهذا الإسم فهو اسم فني ولكنه ليس خاليا من ملامح انسانية محددة، اعترف أن هذه المرأة موجودة، فهي موجودة أو كانت موجودة، تلك كانت قصة حقيقية محفورة عميقا في جسدي... في الغرفة كنا متحررين من الأسماء، ومن الهويات القومية ومن الفوارق، ولكن تحت الشرفة هناك حرب بين الشعبين" . (الكرمل، ع 52، 1997. ص 220).
وفي رواية أخرى يقال أن ريتا هى تلك الطفلة اليهودية الصغيرة التي عرفها درويش فيأحد أحياء فلسطين .
ويقول درويش : كان الأستاذ الأول الذي علمني العبرية يهودياً, كان الحب الأول في حياتي مع فتاة يهودية, كان القاضي الأول الذي زج بي في السجن امرأة يهودية, ولذا فأنني منذ البداية, لم أرد اليهود أما شياطين أو ملائكة بل كائنات إنسانية", وعديد قصائده موجه إلى عشاق يهود, يقول : هذه القصائد تقف إلى جانب الحب وليس الحرب ".
مولد لاعِبُ النَّرد :
أَنا لاعِبُ النَرْدِ ، أَربح حينًا وأَخسر حينًا، أَنا مثلكمْ، أَو أَقلُّ قليلًا .. ولدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ .. وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ .
محمود درويش الإبن الثاني لعائلة تتكون من أربعة أبناء وثلاث بنات ، ولُد درويش 13 مارس 1941 في قرية البروة إحدى قرى فلسطين، لجأ إلى لبنان عام 1948، كان في السابعة من عمره وبقي هناك عام واحد، عاد بعدها متسللًا الى فلسطين وبقي في قرية دير الأسد لفترة قصيرة استقر بعدها في قرية الجديدة (شمال غرب قريته الام -البروة)، أكمل تعليمه الابتدائي بعد عودته من لبنان في مدرسة دير الأسد متخفيا ، فكان يخشى أن يتعرض للنفي من جديد إذا كشف امر تسلله ، وعاش تلك الفترة محرومًا من الجنسية .
يقول درويش : فقدت العائلة كل شيء,صار والده سليم إلى مجرد عامل زراعي: " اختار جدي العيش فوق تله تطل على أرضه, والى أن توفي, ظل يراقب المهاجرين ( اليهود ) من اليمين يعيشون في أرضه التي لم يكن قادراً على زيارتها ".
ولأنهم كانوا غائبين أثناء أول إحصاء إسرائيلي للعرب, و لأنهم اعتبروا " متسللين" غير شرعيين و" غرباء غائبين – حاضرين", منعت على أفراد العائلة الجنسية الإسرائيلية, تقدموا بطلبات لبطاقات هوية ولكن جواز السفر حجب عن محمود, " كنت مقيماً وليس مواطناً, ارتحلت ببطاقة سفر", في مطار باريس سنة 1968, يقول : " لم يفهموا, أنا عربي, جنسيتي غير محددة, احمل وثيقة سفر إسرائيلية, ولذا رجعت ".
على هذه الأرض ما يستحق الحياة :
رغم ما تعرض له درويش من معاناة في حياته ورغم وصفه للحياة بأنها موجعة وأن وجع الحياة من أقوى أسباب الوفاة، إلا أنه ظل يحبها، يذكرها كثيرًا في كتابته، مؤمنًا أنه حتى في الموت حياة وسلامة، وأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة :
على هذه الأرض ما يستحق الحياة : تردد إبريل، رائحة الخبزِ .. في الفجر ... أمهاتٌ تقفن على خيط ناي ...
نحب الحياة غدًا .. عندما يصل الغد سوف نحب الحياة .. كما هي ، عادية ماكرة .. رمادية أو ملونة، لا قيامة فيها ولا آخرة .
لأني أحب الحياة أريد أن أودعها ضاحكًا ...
أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية وفي موتي حياة ...
يا نوح .. لا ترحل بنا .. إن الممات هنا سلامة .. إنّا جذور لا تعيش بغير أرض.. و لتكن أرضي قيامه .
الشهيد يحاصرني :
كان للشهداء نصيبًا ومكانة خاصة في شعر محمود درويش، ونذكر من قصائده التي تحدث فيها عن الشهداء : (حالة حصار) و (في حضرة الغايب) و (عندما يذهب الشهداء إلى النوم ) ...
الشهيدُ يُحاصِرُني: لا تَسِرْ في الجنازة.. إلاّ إذا كُنْتَ تعرفني .. لا أُريد مجاملةً .. من أَحَدْ.. الشهيد يُحَذِّرُني: لا تُصَدِّقْ زغاريدهُنَّ.. وصدّق أَبي حين ينظر في صورتي باكياً: كيف بدَّلْتَ أدوارنا يا بُنيّ، وسِرْتَ أَمامي .. أنا أوّلاً، وأنا أوّلاً !
خسائرُنا: من شهيدين حتي ثمانيةٍ كُلَّ يومٍ .. وعَشْرَةُ جرحي ..وعشرون بيتاً .. وخمسون زيتونةً...
شهداؤنا ..لم يسألوا: ماذا وراء الموت؟ .. كانوا يحفظون خريطة الفردوس أكثر من كتاب الأرض، يشغلهم سؤال آخر : ماذا سنفعل قبل هذا الموت؟ .
وفي رثاء صديقه رسام الكاريكتر الشهيد "ناجي العلي" قال : الوفاء لشهدائنا ولذاتنا لا يتم بالقطيعة، بل بتطوير مضامين هويتنا الديمقراطية، وخوض معركة الحرية ومعركة الديمقراطية داخل الحالة الفلسطينية بلا هوادة وبلا شروط فلا الورد الملكي يبكي علينا، ولا مسدسات الاغتيال ولغة الاغتيال تجهز من أجل الوطن، فلماذا يغتالون الشهداء مرة ثانية، بأن يُضفوا عليهم هوية ليست لهم ؟ .
إن ناجي العلي لنا ومنا، لذا، ليس من حق سفاحي الشعب الفلسطيني أن يسرقوا دمعنا، ولا أن يخطفوا منا الشهيد، فهذا الشهيد الذي كان شاهدًا علينا هو شهيد ثقافتنا، شهيد الطرق المتعددة إلى الوطن .. وهو أحد رموز الرأي المغاير داخل الحالة الفلسطينية المغايرة لما يحيط بتا من قمع ..
تُوفي -شاعر المقاومة الفلسطينية- محمود درويش، في أغسطس 2008 بمدينة هيوستن بولاية تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، عن عمر يناهز الـ 67 عامًا، عقب خضوعه لعملية جراحية في القلب.