كان الموسيقار كمال الطويل يقول إن موسيقى عبد الوهاب مثل النشّافة، تجد فيها بقايا من كل مَن سبقوه أو عاصروه، بينما كان عبد الوهاب يقول «أنا مثل النحلة أَحُطّ على كل الأغصان لأقدم فى النهاية عسلا شهيا».
تساءلت أمس عن سرقات عبد الوهاب اللحنية سواء التى أخذها من الآخرين أو تلك التى استفاد فيها من الموسيقى الأجنبية؟ قضية أثارتها الصحافة قبل عقود من الزمان بقلم كبار الكتاب وبعضهم من أصدقائه مثل محمد التابعى الذى كتب مقالا عنوانه «الأسطى والأستاذ» كان يقصد الأسطى رؤوف ذُهنى الذى تردد اسمه كثيرا باعتباره مَن يلحّن من الباطن لعبد الوهاب، وكان رؤوف ابن شقيقة زوجة عبد الوهاب وأم أولاده السيدة إقبال نصار، وفى مرحلة زمنية كان لديه صفة رسمية فى مكتب عبد الوهاب باعتباره السكرتير الفنى للأستاذ، وأيضًا بيرم التونسى الذى كان بينه وعبد الوهاب خلاف معلَن، فلم يزد تعاونهما على أغنية تقول كلماتها «ماحلاها عيشة الفلاح مطّمن جَلْبه ومرتاح يتمرمغ على أرض براح والخيمة الزرقا ساتراه» والتى كان يرى فيها بيرم أن عبد الوهاب لم يستشعر روح الثورة فى الكلمات فجاء اللحن يهتف بالرضا بين الكلمات التى تحمل سخرية مضمرة. بيرم له زجل شهير يقول فيه «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله» نعتقد للوهلة الأولى أنه يسخر من الأغانى الرديئة وهو كذلك بالطبع ولكنه كان يقصد أغانى عبد الوهاب التى كتبها تحديدا منافسه شاعر الشباب أحمد رامى وضرب مثلا بأغنية «يا وابور قوللى رايح على فين» وهكذا فضح بيرم سرقات عبد الوهاب فى مقال حمل نفس العنوان.
أتذكر أنه بعد رحيل عبد الوهاب عام 91 بأيام قليلة فوجئت بأن الموسيقار محمد الموجى يرفع دعوى قضائية ضدى لأنى نشرت على صفحات مجلة «روزاليوسف» أن عبد الوهاب سرق لحنين له «حبيبى لعبته الهجر والجفا» و«أحبّك وانت فاكرنى وأحبك وانت ناسينى» كان الموجى لا يمانع فى كتابة ذلك وعبد الوهاب على قيد الحياة ولكنه انزعج من نشرها بعد رحيله، ولم ينكر أبدًا الموجى أن عبد الوهاب أخذ منه اللحنين بل إنه يتذكر مثلا أن «أحبّك وانت فاكرنى» كانت أغنية لعبد الحليم من كلمات سمير محبوب الذى كان هو الضلع الثالث فى البدايات للموجى وعبد الحليم، وأسمع الموجى اللحن أستاذَه عبد الوهاب ليسترشد برأيه فما كان من الأستاذ إلا أن طلب منه أن يعيد اللحن عدة مرات وفى كل مرة يستزيده، ثم فوجئ بأغنية «أحبّك وانت فاكرنى» بكلمات أخرى لحسين السيد، وعندما عتب التلميذ على الأستاذ قال له «عندما يعجب أب بكرافت لابنه ويستعيره هل تعتبر هذه سرقة أم اعتزاز بذوق الابن؟»، وبكى الموجى من فرط رقة عبد الوهاب ولكنه لم يُسمعه من بعدها أى لحن له قبل أن يتم تسجيله.
الموسيقار كمال الطويل لم ينسَ أن عبد الوهاب منع تداول أغنية «دموع عنيَّا» التى لحّنها لليلى مراد بتوزيع أندريا رايدر فى شركة «صوت الفن» التى يمتلكها عبد الوهاب إلا بعد أن خرج لحنه «أنا والعذاب وهواك» بتوزيع أندريا رايدر أيضا وكان يحمل كثيرا من ومضات «دموع عنيَّا» فجاء بعدها لحن الطويل مهزوما بينما «أنا والعذاب» كان ولا يزال هو اللحن الأكثر شعبية.
ويبقى الرقم الصعب الملحن رؤوف ذُهنى الذى كان لديه كثير من الحكايات مثل أغانى فيلم «غزل البنات» الذى يقول إنه اشترك مع منير مراد فى تلحينها من الباطن، رؤوف أيضا كان لديه شيك موقَّع من عبد الوهاب بأربعة آلاف جنيه يقول إنه ثمن اشتراكه فى تلحين رائعة أم كلثوم «فكّرونى».
إلا أن السؤال هو: لماذا عندما نستمع إلى هذه الأغنيات وغيرها نلمح فيها الطابع الوهابى طاغيًا؟ تحليلى أن عبد الوهاب كان يعتبر هذا الإبداع مثل المادة الخام وهو يعيد مرة أخرى تنسيقه وتهذيبه فيصبح فى النهاية ابنًا شرعيًّا له. أتمنى أن يتم الكشف العلمى بالكمبيوتر على بعض ألحان عبد الوهاب التى طالتها الاتهامات، مثلما فعلوا مع شكسبير الذى لاحقته اتهامات مماثلة فخلصوا عن طريق فحص «دى إن إيه» إن صح التشبيه، إلا أن مسرحيات وليم شكسبير هى لوليم شكسبير. لماذا لا يتم فى عيد ميلاد عبد الوهاب الذى يحلّ غدًا تحليل البصمة الجينية لأغنياته؟