أستأذنكم أن أستدعى لحضراتكم من مخزن ذكريات العمر نص حوار قديم دار بينى وبين صديقى النشال الغلبان الأستاذ «سعيد بُقوُ» الذى تشرفت بمعرفته ونَسجنَا معًا علاقة ودّ ومحبة خالصة خلال شهور رائعة أمضيناها معًا فى سجن مزرعة طرة قبل سنوات.. كان الأستاذ سعيد (هو متعدد المواهب وبارع فى كل فنون السرقة، ابتداءً من اختلاس الطيور والمواشى، والعبث فى الجيوب، وحتى كسرالمحلات والشقق وفك شفرات أعقد الخِزن وأكثرها منعةً وتطورًا) يقضى عقوبة ارتكابه بضع حوادث سرقة و«نشل» بسيطة يعتبرها نوعًا من التكافل الاجتماعى القَسْرى بينه وبين ضحاياه ركاب المواصلات العامة الذين يشاركونه الفقر والغُلب نفسيهما، أما العبد لله فقد كان آنذاك متمتعًا بضيافة نظام الأستاذ المخلوع أفندى وولده بتهمة ارتكاب حوادث «نشر» متكررة لآراء ومقالات ناقدة ومعارضة.
المهم، فى عصر أحد أيام الحبس الطويلة كنت والصديق «سعيد بُقوُ» نجلس فى بُلهْنِية حلوة، نحتسى شايا ملهلبًا فى «كوزين» من الصفيح الفاخر، وبينما سعيد منهمكًا فى سرد تفاصل مغامراته وحكاياته الشائقة الممتعة التى كنت أحرّضه بإلحاح وأدفعه دفعًا ليحكيها طمعًا فى تبديد الملل وإضاعة وقت ثقيل لزج يسحق نفوس المساجين، فجأة قطعتُ تدفُّقه واستوقفته متسائلًا:.. ألاحظ يا سعيد من كل حكاياتك وغزواتك أن عمليات «نشل» الرزق (كان يسمى سرقاته الصغيرة رزقًا) تتم كلها بالنهار!
أمّال سيادتك عايزنى أنشل الناس بالليل والدنيا ضلمة وعندما تهجع المواصلات والأوتوبيسات فى جراجاتها؟!
هكذا قال سعيد مستخفًّا، فقلت له: لا يا أستاذ، أنا لا أقصد عمليات النشل، فهذه طبعا لا بد أن تتم فى قلب ساعات النهار، ولكن سؤالى عن عمليات سرقة الشقق والمحلات، فأنت دائما تتحدث عن إتمامها بالنهار أيضا، مع أن الشائع أن هذا النوع من السرقات والهجمات يحدث فى الليل البَهيم وتحت جُنح الظلام.. على الأقل، هذا ما يقوله الزملاء فى صفحات الحوادث!
اعترض «بُقوُ» بشدة وبدا غاضبًا جدا مما اعتبره جهلًا من جنابى وانعدام لياقة تَجسَّد فى استخدامى تعبير «سرقة» لوصف عمليات «التكافل الاجتماعى» التى ينفذها مع زملائه، وكان على وشك أن يخاصمنى وينهض مبتعدا لولا أننى تداركتُ الأمر بسرعة واعتذرت له لسوء الأدب غير المقصود.. ولأنه طيب القلب وجدع جدًّا فقد قَبل اعتذارى وتفهم حسن نيتى وجاوبنى على السؤال قائلا، وهو يبتسم:
أستاذ فلان، ماذا لو كنت عائدًا ذات ليلة إلى بيتك ووجدتَ أمام باب شقة جارك أشخاصًا غرباء غلابة مثلى؟ ماذا بحق الله ستظنُ فيهم؟ هل ممكن تقول مثلا، إنهم ناس «دكاترة» زمايل الست زوجة الباشمهندس جارك؟!
أدركتُ قصد سعيد لكننى لم أنطق، فجاوب هو بصوت هادئ ونبرات لا تخلو من حكمة وذكاء: طبعا حضرتك ح تفهم إن المقاطيع اللى واقفين قدام الشقة بالليل حرامية.. مش كده؟!
ـ فعلا يا سعيد، عندك حق.
ـ عشان كده يا أستاذ، الحرامى المُحدَث الحمار هو فقط اللى بيشتغل بالليل وبيتقفش بالليل برضه، لكن الأذكياء المحترفين بيسعوا إلى رزقهم تحت ضوء الشمس وفى كبد النهار!!
هكذا تحدث «سعيد بُقوُ»، فهل فهمت الآن لماذا كل القوى الرجعية والعصابات الفاشية والإرهابية تكره النور وتعشق الظلام وتسعى أن تعم العَتمة وتختم بِثقلها الرهيب على العقول والأفهام؟ باختصار، لأنهم أغبياء.. وتلك من آيات رحمة المولى تعالى بعباده.