يرى علماء الاجتماع أن تكرار وجود أى ظاهرة وثبات وجودها يعنى أنها تحقق فائدة للمجتمع، مهما كانت سلبية هذه الظاهرة، ينطبق ذلك على ظاهرة الفقر فى مصر، فمنذ مطلع التاريخ والفقر يحل ضيفا ثقيلا علينا، لا يغادر ضفاف النيل، ولا يخفف من قبضته على ساكنيه، يرسم المصائر ويحدد الملامح، ويجعل من مصر بلدا لا يموت حقا، ولكنه لا يصح أبدا، تتغير الأنظمة، وتتبدل الدول، وتظل نسبة الفقر ثابتة هذا إذا لم تزد، لا يوجد قاع للفقر فى مصر، ولا فائدة منه للمصريين. الفائدة تعود فقط لمن يحكمهم. تختلف نوعية الحاكم، فرعون، خليفة، سلطان، ملك، أو رئيس، ولكن الصفة هنا مجرد قناع عابر، وسيلة الحكم ذاتها لا تتغير، الإمساك بخناق فقراء مصر باعتبارهم الغالبية العظمى من السكان، من السهل حكم الفقراء وإخضاعهم، من السهل، بل ومن الجائز، سلبهم أى نقود زائدة يجنونها بفرض مزيد من الضرائب، ومن السهل أيضا التحكم فى الأسعار التى يشترون بها غذاءهم ودواءهم، ومهما قيل عن مشاريع أو استثمارات أو اكتشافات معدنية فلا شىء يؤثر على مستوى المعيشة المتدنى.
ومؤخرا رغم صيحات الثورة، وارتفاع شعار العدالة الاجتماعية، فقد ظل معدل الفقر آخذا فى الارتفاع، وبدلا من أن تكون الثورة طاقة أمل لفقراء مصر تحولت لتكون وبالا عليهم، لم تضف فرصا جديدة للعمل فقط، بل وأغلقت عديدا من منافذ العمل القديمة، وقد أعلن الجهاز المركزى للإحصاء مؤخرا أن نسبة الفقر فى مصر قد ارتفعت عن العام السابق إلى 26.3% من إجمالى السكان، وهو رقم صغير ومضلل شأن معظم الأرقام الحكومية، فالإحصائيات والمصادر الرسمية الأخرى تؤكد أن الأسر الفقيرة التى يبلغ دخلها أقل من دولار أمريكى يوميا، أى أقل من سبعة من الجنيهات، لا تقل بأى حال من الأحوال عن 36% وترتفع النسبة فى مدن الصعيد وقراه التى أهملت عمدا إلى 44%، وهى نسبة قاتلة ولا إنسانية، فكل الحكومات التى تولت بعد الثورة، ورغم ما بذلته من وعود وشعارات، لم تفعل أكثر من أنها قادت المصريين إلى مزيد من الفقر.
المماليك هم أشهر من استغلوا مصر وعصروها حتى النخاع، وعندما جاء نابليون فى حملته الشهيرة وصف القاهرة بأنها أعظم المدن وأكثرها بؤسا، وهو الوصف نفسه الذى يمكن أن نطلقه عليها الآن فى بداية القرن الحادى والعشرين، كما أن التقسيم الذى وضعه المماليك لمصر ما زال ساريا حتى الآن، فقد كانوا عبيدا مجلوبين، لا حدود لشراهتهم، وقاموا بتقسيم مصر بأراضيها وترعها ووديانها إلى أربعة وعشرين قيراطا، نصيب السلطان منها أربعة قراريط إذا كان ضعيفا، وخمسة إذا كان عنيفا، وستة إذا كان شَرهًا. وكان السلطان الغورى أشدهم شرها، فقد تاجر فى أقوات الناس واحتكر سوق البهار، وكان للأمراء وقادة العسكر عشرة قراريط كاملة، واثنا عشر إذا خرجوا للحرب، وأربعة عشر إذا غضبوا وثاروا على السلطان، وقيراطان للترضية، يهبهما السلطان للأمير الغاضب حتى يهدأ، بينما يفكر السلطان فى خطة للتخلص منه، وأربعة قراريط للصرف على كل وجوه الدولة، المساجد والمشايخ وطلاب العلم ولكتبة الدولة والعاملين ولرحلة الحجيج، وثلاثة قراريط يرسل منها السلطان الخلع والعطايا لنوابه حتى لا يثوروا عليه، ويخزن منها قمح العنبر الشريف، الذى لا يستخدم إلا فى أوقات المجاعات، لم يبق من هذه القسمة إلا قيراط واحد لكل الفلاحين المصريين، للذين يزرعون فى برودة الفجر ويحصدون فى قيظ الظهيرة، وقود الحروب وضحايا الأوبئة والفيضانات، كان هذا هو نصيبنا من العالم، وحتى هذا القيراط سلبه محمد على عندما حكم البلاد.
ودخل الفلاح المصرى إلى الزمن الحديث مفلسا حافيا دون أن يمتلك أى شىء. عبد الناصر وحده حاول أن يعيد تشكيل هذه القسمة الظالمة، كان وحده من الحكام الذى يمتلك حساسية خاصة تجاه الفقراء، ولكن الأرض التى تفتتت وامتلأت ببيوت الأسمنت لم تعد تسمن من جوع، وأمسك بخناق مصر مماليك جدد، أعادوا القسمة من جديد، قسموا مصر بأراضيها وصحاريها ومصانعها ومؤسساتها وحتى نهرها الوحيد، هناك من احتكر استيراد القمح، ومن احتكر تجارة اللحوم والأغذية والأخشاب والحديد والأسمنت والأسمدة وغيرها، خلف كل نوع من التجارة يقف مملوك يحتكر الأسواق ويحدد الأسعار ولا أحد يجرؤ على منافسته، يمتلك شراهة المماليك القديمة، ودقة تنظيم المافيا الحديثة التى تقوم بتصفية الخصوم أولا بأول، ويبقى المواطن المصرى هو الغارم الوحيد، وسط صراع السوق المفتوحة، وقواعد التجارة المشوهة التى لا يوجد لها ضابط، يدفع فقراء مصر الثمن مضاعفا، هؤلاء المماليك الجدد لا يكتفون بالاستيلاء على أرزاق الفقراء، ولكنهم يقومون بالاستيلاء على أى ثروة يمكن أن يمتلكوها، وقاموا بذلك على ثلاث مراحل:
أولا.. بدلا من إنشاء مصانع جديدة، وتشجيع المستثمرين قاموا بالاستيلاء على كل ما بناه عبد الناصر وأضافه للاقتصاد المصرى، وباعوها بأبخس الأسعار، بيعت مصانع القطاع العام وما يتبعها من مخازن وأراض بثمن لا يتجاوز قيمة الأرض التى أنشئت عليها، وتم تصفية عديد من هذه المصانع وطرد المئات من العمال لينضموا إلى كتلة العاطلين الفقراء فى مصر، وبذلك تم القضاء على قاعدة القطاع الذى تحمل حرب أكتوبر ضد إسرائيل، كأنما تتم معاقبته على هذه المهمة.
ثانيا.. أغلق عديد من المشاريع التى لم تبع وتمت تصفيتها، والأمثلة عديدة أشهرها شركة النصر لصناعة السيارات، التى أنشئت قبل مصانع كوريا الجنوبية، وفى الوقت الذى أصبحت فيه السيارات الكورية تملأ العالم، توقف المصنع المصرى وتحولت ماكيناته إلى «خردة»، وكذلك الأمر فى «وبريات سمنود» ومشروع فوسفات أم المطامير وشرق التفريعة وتوشكى، وغيرها من المشاريع الكبرى، كلها توقفت دون سبب واضح ودون إحساس بمرارة الخسارة، بل إن المصانع التى ظلت تعمل ولم يتم بيعها أخذت تحقق خسائر مريعة دون أن يتم التدخل لتعديل مسارها أو تغيير مجلس إدارتها ومحاسبتهم على فشلهم، كأنما يقومون بتنفيذ سياسة عليا مرسومة لهم من قبل الذين يحكمون.
ثالثا.. عدم محاسبة السرقة واللصوص الذين نهبوا ثروات هذا الشعب، من النادر أن يوجد مسؤول مصرى لم يقم بالسرقة فى أثناء توليه منصبه، وقليل منهم الذى تم ضبطه متورطا، وحتى هؤلاء استطاعوا الإفلات من غربال العدالة الواسع، حتى أشهر لصوص مبارك الذين تم ضبطهم وفى حوزتهم عشرات المليارات وعلى رأسهم أبناء الرئيس نفسه استطاعوا الإفلات، وقد ساعد على ذلك ليس ضعف أجهزة الرقابة وفساد الجهاز القضائى فقط، ولكن عدم المبالاة بحفظ أموال فقراء مصر.
هل يمكن أن يأتى نظام لا يستغل فقر الفقراء كوسيلة للحكم، هل هناك أمل فى أن لا يستغل الرؤساء القادمون نقطة ضعفنا، حمدين صباحى كان لا يزال واحدا من نسل فقراء مصر، هل يمكن أن لا ينسى ذلك، يُقال إن المشير السيسى قد اختلج صوته وكان على وشك البكاء وهو يتذكر فقراء مصر وسكان العشوائيات، هل يمكن أن يظل شعوره بالأسى باقيا بعد أن يصل إلى سدة الحكم؟
هل يمكن أن يأتى نظام لا يستغل فقر الفقراء كوسيلة للحكم؟