جارية من جوارى المدينة مغنِّية، ومن ألحَنِ من رُئِىَ فى الإسلام من قيان، ومن أحسن الناس وجهًا وأكملهم عقلًا وأفضلهم أدبًا. قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية. وهى مولَّدة من مولَّدات المدينة (كلمة مولَّدة قرأتها كثيرًا فى كتب التاريخ كوصف من أوصاف الجوارى، وأعتقد أنها تعبِّر عن شدة الجمال، زى ما كنا بنقول زمان «مَكَنة» أو بيقولوا دلوقتى «مزة»، هى تعبير عن الخصوبة واللدانة وغيرها من الأوصاف)، أخذت الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومالك ومعبد وجميلة وعزة الميلاء (كل هذه الأسماء كانت لمغنِّين ومغنِّيات، وكان هذا فى نهاية القرن الأول الهجرى، حتى إن الإمام مالك نفسه فى بداية حياته كان يدور على دور الغناء، وأحب الغناء وكان صوته عذبًا وكان يريد أن يحترف الغناء لولا أن أمه ضحكت عليه وقالت له شكلك وحش ولازم المغنى يكون شكله حلو، رغم أن الإمام مالكًا كان جميل المُحَيَّا، بس ماكانش عندهم مرايات زمان، بس لو كان بص فى كوز مية كان عرف إن أمه بتضحك عليه، وكنا خسرنا إمام مهم زى مالك)، ثم اشترى حبابة يزيد بن عبد الملك بأربعة آلاف دينار فى روايتى الطبرى والدميرى، أغرم بها يزيد، وكانت من أعجب قصص العشق والهوى تنافس قيسًا وليلى وعنتر وعبلة، وأحمد ومنى! أُغرِمَ بها وجلس بجوارها، وكان هذا فى عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك أخيه، فغضب سليمان وقد كان يُعِدّ يزيدًا ليكون خليفته، وأمره بالتخلِّى عنها، والتزم يزيد متضررًا وهائمًا على ذكراها، وربما هذا الذى جعل سليمان يكتب كتابًا لا يُقرأ إلا بعد وفاته، جعل البيعة لعمر بن عبد العزيز، وبعده يزيد، وعندما أصبح يزيد خليفة فى عام 101هـ ورأت زوجته سعدة بؤسه وهمه، سألته «أى شىء تريده من الدنيا وأنت الخليفة؟»، قال لها «حبَّابة»، فأرسلت زوجته واشترتها له ثانيةً، وأجلستها خلف ستار، وسألت الخليفة «ماذا بقى لك من الدنيا؟»، قال لها «مش قولت لك حبَّابة؟»، فكشفت الستار، فرأى حبابة، فانفرجت أسارير يزيد وجلس معها أيامًا بعيدًا عن أمور الخلافة، فدخل عليه أخوه مسلمة وكان قائد جيوش يزيد، وقال له «ضيعت حوائج الناس!»، فأشعرت حبابة شعرًا من بينه:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى/ فكن حجرًا من يابس الصخر جلمدَا
فما العيش إلا ما تلذّ وتشتهى/ وإن لام فيه ذو الشنان وفنَّدا
يا عينى على الطرب! أنا عايز بس الإخوة السلفيين، يقولولنا ما رأيهم فى الغناء والطرب والموسيقى، فى ظل الخلافة الإسلامية، الذى بدأ فى الدولة الأموية وازدهر بكثرة فى الدولة العباسية. هما كانوا أيام الرسول عليه الصلاة والسلام بدوًا لا يعرفون إلا الدف فاستخدموه، وعندما ذهبوا إلى الكوفة والبصرة وبغداد، وظهرت حضارات فارس والروم وقتها فاستخدموا الموسيقى بآلاتها ومقاماتها التى نشأت وقتها، مع العلم أن خلافة اليزيد كانت بعد خلافة عمر بن عبد العزيز، الذى قيل إنه مات مسمومًا بعد أقل من سنتين من الحكم بالعدل، فجاء يزيد وانقلب على عدل عمر، وإن كان استطاع إخماد بعض الثورات كثورة يزيد بن المهلَّب بجيش بقيادة أخيه مسلمة، وخسر معارك وفاز فى أخرى، هذه نقرة وهذه نقرة. أراد أن ينفرد يزيد بحبابة فى أحد قصور الخلافة، بعيدًا عن مشكلات الخلافة وحروبها وثوراتها بعد أربع سنوات من الحكم، وفعل ذلك وأحضر الفاكهة، وأخذت حبابة تتمايل أمامه بملابسها الحريرية الشفافه، ترقص وتغنى وهو يلقى إليها حبات العنب والرمان فتتلقاها بفمها وهى تضحك ضحكتها التى تسلب العقل، وتخلع القلب، وتَملَّك الهوى من قلب يزيد، وشَرِقَت حبَّابة من إحدى حبات العنب التى ألقاها يزيد، وماتت لتوِّها. لم يتمالك يزيد المصيبة، استمر يقبلها ويبكى عليها ويلثمها فى كل مكان بجسدها، واستمر يومين على هذا الحال رافضًا دفنها، حتى انتفخت وتعفنت، وأصرُّوا على دفنها رغمًا عنه، وقيل إنه بعد عدة أيام نبش قبرها وأخذ يبكى عليها مرة أخرى، وقال له أحدهم «أرأيت قبحها اليوم؟» وقد كان لحم وجهها بدأ يتآكل ويتشوه، فقال له «ما رأيتها أجمل منها اليوم»، ومات بعدها بأسبوعين، وقيل بأربعين يومًا، وهو فى سن الأربعين، وقالوا أصغر من ذلك.
هذا ما روى مضمونه ابن كثير فى «البداية والنهاية» والطبرى، وغيرهما. قد يدافع البعض وينكر تلك الروايات، ولكن ما الدافع، فسياق الغِنَى والترف الذى كان موجودًا يؤدِّى إلى ذلك، وبعدين حَدَّثُونا عن عدل عمر بن عبد العزيز كثيرًا، مَن منهم تحدث عن يزيد بن عبد الملك، لو كان ليه أمارة ولاّ كرامة؟ ولكن لأنها كانت نقطة سوداء، جاءت بعد أكثر النقاط بياضًا فى العصر الأموى، أو فلنقُل هى النقطة الوحيدة البيضاء فى العصر الأموى التى اغتالتها الأيدى الأموية نفسها، فهل المدافعون يظنُّون أنهم يدافعون عن الإسلام بدفاعهم عن يزيد؟ وما علاقة الإسلام بيزيد ولاّ حتى عمر وأبو بكر؟ هم كلهم بشر يصيبون ويخطئون، فلا تحمِّلوا الإسلام تاريخًا وتراثًا يُثقِله، فالتاريخ والتراث حسنه حسن وقبيحه قبيح، فالإسلام أعلى وأسمى وأنقى من ممارسات البشر.