الذى يريد البناء يقوم أولًا بتوفير أدواته، ولعل من أهمّ أدوات التى يستخدمها البنَّاء حزمة من الخيط السميك المتين، يمدّ البنَّاء الخيط إلى منتهاه، باستقامة تامَّة، فيظهر له أى اعوجاج قد يلحق ببنائه فيستطيع أن يتداركه قبل أن يُتِمَّ البناء.
أرى أن هذا التمهيد كان ضروريًّا لكى نقترب من فهم حقيقة التصريحات التى أطلقها وزير الدفاع المشير السيسى فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السنوى الثانى لشباب الأطباء وحديثى التخرج. قال المشير السيسى «حب الوطن مش كلام وخلاص ولكن عمل ومثابرة وقدرة على علاج المشاكل.. خلوا بالكم لازم نكون أمناء ونتكلم بجد، قبل ما أحطّ اللقمة ف بقى، أفكر أنا ادِّيت إيه للبلد دى؟ حب الوطن مش كلام، أنا باكلم نفسى معاكم، ماقصدش أوجه لكم أى كلمة، أنا باكلم نفسى، فيه مشكلة فى بلدنا لم تواجَه منذ 40 سنة، المستشفيات مش كويسة، طيب ليه؟ والمدرسة مش كويسة، طيب ليه؟ يا ترى حد قال أدِّى لمصر شهر من عندى علشان الغلابة تعيش؟ يا ترى حد قال هامشى على رجلى علشان أوفر حاجة لبلدى؟ اوعوا تزعلوا منى، أنا شايف مصر زى ما انا شايفكم وشايف مشاكلها زى ما شايفكم، البلاد لا تتقدم بالكلام ولكن تتقدم بالعمل والمثابرة، ممكن جيل أو اتنين يتظلموا علشان الباقى يعيش. لازم نعرف المرض علشان نعرف تعالجه، عمر مشاكل الدول ما تتحلّ ف يوم وليلة، ولكن بتاخد سنين، سواء نجاح أو فشل.. إنتم الأمل، عايزين خدمة طبية حقيقية وخريطة حقيقية للأمراض فى مصر، ويكون عندنا بحث علمى محترَم، معندناش خيار إن كل حاجة ممكن نجيبها من الخارج، فقدراتنا الاقتصادية لا تتحمل».
كلام المشير لا غبار عليه، فهو كلام رجل عاقل لا يريد توريط نفسه فى عملية خداع للشعب عبر الحديث عن أنهار اللبن والعسل التى ستجرى بين يديه، الرجل يدرك جيدًا حقيقة أوضاعنا الاقتصادية ويرغب بشدة فى أن يتشارك الجميع فى تحمل مسؤولية النهوض بوطن عانى ولا يزال يعانى ظلمات فترة حكم مبارك، ولكن ما ينقص هذا الكلام هو أن المشير لم يمدّ الخيط إلى منتهاه، ومدُّ الخيط عملية ضرورية لا تقلّ أهمية عن عملية المصارحة، المشير يعرف بلا أدنى شك الذين يجب أن يدفعوا أولًا، لأنه حتمًا يعرف الذين استفادوا أولًا، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يصبح الذين عبروا والذين هبروا سواء، هناك من دفع الثمن كاملًا غير منقوص، أبناء الطبقة الفقيرة ومعظم شرائح الطبقة الوسطى، وهؤلاء يجب أن لا يطالبهم أحد بمزيد من سداد فواتير غيرهم، لدينا تقرير قدَّمه المستشار هشام جنينة ذكر فيه بوضوح لا غموض فيه أسماء المؤسسات والهيئات التى تجرف ثروات الوطن، من هذا التقرير يجب أن نبدأ، قف يا سيادة المشير فى وجه هؤلاء الذين يهدرون وينهبون ويغتصبون مقدَّرات وثروة البلد وبعدها بساعة واحدة سترى بعينيك كيف سيصطف الشعب من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وشمالك ولن يتركك منفردًا تواجه ضباعًا توحشت من فرط ما أكلت حرامًا حتى بشمت، تعلم يا سيادة المشير أن حسنى مبارك قد باع بثمن بخس معظم شركات ومؤسسات البلد، فماذا أنت فاعل؟ هل سيتواصل كل النهب الذى نظمته قوانين مبارك أم سنراك تنتصر لبلد أصبحت آماله معلَّقة بك؟
تعلم يا سيادة المشير أن سعر طن الأسمنت لا يتجاوز فى السوق العالمية 300 جنيه، ولكنه فى مصر البلد المنتج للأسمنت يتجاوز سعره 800 جنيه!
كيف يستقم هذا الأمر الشاذّ الغريب؟! لقد استردّ صديقك بوتين ثروة بلده التى فرَّط فيها سابقه، وذلك لأنه ذهب إلى رأس الدمّل ومد الخيط إلى منتهاه، فأصبحت روسيا بفضل سياسته بلدًا قادرًا لا يمد يديه طالبًا معونة من زيد أو عمرو. إن الذين يُغْرُونك بمضاعفة فقر الفقراء وبمطاردة المصريين بالخارج أو الداخل عبر فرض ضرائب عليهم، إنما يُورِدُونك موارد الهلاك، فخذ حذرك ولا تلتفت إلَّا إلى شعب يراهن على شرفك الوطنى، فلا تخذله.