لم تسعفنى الظروف لأعود إلى المعاجم- كالعادة- إذا استشكل لدىّ الفهم الدقيق للمصطلحات، وأسعفنى الذوق الشعبى الذى يفرّق عادة بين الشخص البطال والشخص الضلالى، وواضح لأول وهلة أن البطال له صلة بالباطل، الذى هو نقيض الحق، ولكنه فى الوجدان الشعبى يتصل بأفعال معينة مسلكية، فيقال رجل مشيه بطال، وامرأة مشيها بطال، والتهمة هنا تتصل بالتفريط فى العرض وبممارسة المتع الجسدية خارج نطاق الشرعية! أما الضلالى، فله صلة بالضلال، وهو نقيض الهدى، وهو فى الوجدان الشعبى يتصل بما هو معنوى وذهنى وبما هو مرتبط بذمة الشخص، كشاهد الزور والمراوغ الذى يستخدم براعته اللفظية أو مكانته الاجتماعية فى الانحراف بالمعانى وقلب المفاهيم وفى إلباس المنطق المفكك المتهاوى ثوب المنطق المحكم المتماسك.. ومن ثم فقد أعجبت بصفة الضلالى التى أطلقها الزميل الصديق الكاتب المتميز محمد أمين على أحد الذين احترفوا توظيف أقلامهم فى قلب الحقائق، بعد أن استمرأ أن يوصف بأنه الكاتب والمفكر الإسلامي!، دون أن يرد عن نفسه هذا الضلال الذى أدى إلى أضرار بالغة بالإسلام نفسه، بعد أن تم تحميله أوزار أولئك الضلالية!
مناسبة تلك المقدمة هى حكم محكمة الأمور المستعجلة ضد حماس وحظر أنشطتها وإغلاق مكاتبها، إذ سينطلق الضلالى إياه- ومن على شاكلته- إلى اعتبار الأمر عقابًا للشعب الفلسطينى كله ومصادرة لإرادته التى انتخبت حماس للحكم وإلى آخر الأسطوانة المشروخة إياها، ولا بأس أن يتمادى الضلالية فى غيهم ليتم التلطيش فى الجيش المصرى وفى القوى السياسية من غير الإخوان الإرهابيين!.. وليبقى أولئك «الضلالية» فى خانة نموذج الندابة والمهرج، وقد سبق أن كتبت عن هذا النموذج الذى يبقى أصحابه دخلاء على اللحظة وعلى الحالة وعلى أصحاب الشأن الحقيقيين، مثلما هى الندابة التى تُستدعى لتكثيف لحظة الحزن عند الحزانى وهى دخيلة عليها، وربما مارست مهمتها وهى فى بهجة لسبب أو آخر، وربما لما ستقبضه من أجر سخى على مهمتها.. ومثلما هو المهرج الذى يُستدعى لتكثيف لحظة البهجة عند الآخرين مقابل أجر يدخل جيبه، ولا بأس من أصباغ على وجهه لتكتمل المهمة!
إن كل ذلك التيار المتأسلم دخيل على مسيرة النضال الوطنى فى المنطقة ككل، والجميع يذكر كيف تم تحويل النضال الوطنى الجامع الشامل الذى يضم أطياف الشعب الفلسطينى كافة ضد الانتداب البريطانى وضد التغلغل الصهيونى ثم ضد الدولة العبرية، إلى حالة من الاستقطاب الدينى والطائفى، والانحراف بالهدف الذى كان دوما دولة فلسطينية مدنية تكون ملكًا لكل أبناء فلسطين إلى إقامة إمارة إسلامية تسعى لدولة الخلافة عبر تدمير الفكرة الوطنية والانتماء القومى التحررى، بل تدمير أوطان عربية أخرى لم تتردد شعوبها فى تقديم الأرواح والدماء لتحرير فلسطين.
إن هؤلاء الضلالية لن يتمكنوا من فصم علاقة شعب مصر بجيش مصر من خلال الترويج لضلالات أن جيش مصر تخلى عن وجدانه الوطنى والقومى، وأن عقيدته القتالية تغيرت، وأن العدو الصهيونى مطمئن إلى أن مصر بجيشها لا تشكل خطرا عليه! ولن يستطيع الضلالية أن يجعلونا نكفر بانتمائنا القومى أو نتراجع عن حقيقة أن قضية فلسطين قضية أمن وطنى مصرى من الدرجة الأولى، لأن أمننا يمتد من باب المندب ومنابع النيل جنوبا إلى جبال طوروس وشمال سوريا ومنابع دجلة والفرات شمالا وشرقا.
ولن يستطيعوا أن يرعبونا أو أن يبتزونا بضلالة أن حماس وزعرانها وقياداتها الممتلئة لحما وشحما وأموالا هم شعب فلسطين وهم أهل غزة، لأننا ندرك أن شعب فلسطين وأهل غزة إخوتنا الذين جسّدوا الكرامة الإنسانية عبر عقود طويلة، وبعثوا قضيتهم من ركام مخيمات اللاجئين إلى مصاف قضايا التحرر الوطنى العالمية، وبذلوا الثمن أضعافًا مضاعفة!
إن موقفنا من زعران حماس ومليارديرات الأنفاق وأزلام الإخوان الإرهابيين لن يختلط بموقفنا من شعب فلسطين وأهل غزة، ولن نتردد لحظة واحدة فى أن نطالب، ونصر على عدم الخلط، وأن نفتح أبواب مصر وصدورنا معها لكل الفلسطينيين الطيبين الذين يحبون مصر، ويعرفون قدرها ودورها، ويدركون أن بقاء مصر ضعيفة مفككة مستقطبة دينيًا وطائفيًا ومذهبيًا هو أكبر هدف يحققه العدو الصهيونى الذى يريد أن تكون دولته العبرية يهودية خالصة فى أقرب وقت، ولن يتم ذلك إلا فى محيط يقوم على الفرز الدينى والمذهبى!
فلسطين الأرض والشعب والتاريخ والنضال والقضية فى قلب القلب من وجود مصر، ومن غير الصحيح وطنيا وتاريخيا وعلميا إمكانية الفصل بين هموم مصر ومشاكلها وبين ما يحدث فى فلسطين التى هى من صميم صميم الأمن الوطنى لمصر.