قبل سنوات قليلة نقلت وسائل الإعلام العالمية خبرًا مفاده أن أحد هواة حيازة الرسائل الخاصة التى يكتبها المشاهير، اشترى من صالة المزادات «كرستيز» فى لندن أصل خطاب طريف كان الروائى الأمريكى الفذ أرنست هيمنجواى أرسله فى العام ١٩٢٥ لصديقه ومواطنه الناقد والشاعر أزرارا باوند، وقد دفع الزبون مقابل حصوله على هذا الخطاب مبلغ ٨٧ ألف جنيه إسترلينى.. أى نحو مليون جنيه مصرى!
وأكاد الآن أسمع القارئ العزيز الذى يكابد مرار الدنيا للفوز بما يكفى الإنفاق على ضرورات البقاء على قيد الحياة حتى نهاية الشهر، يهتف محروقًا: صحيح رزق الهبل على المجانين.
ومع ذلك فإن فحوى رسالة هيمنجواى لصديقه أزرارا باوند تستحق فعلا الـ٨٧ ألف جنيه إسترلينى المدفوعة فيها من الزبون الذى هو أخونا فى الإنسانية ولست أظنه أهبل، تمامًا كما أن صالة كرستيز التى هبرت هذا المبلغ بالقطع ليست مجنونة، فالروائى العظيم الذى يزين اسمه قائمة الحاصلين على جائزة نوبل، أبدع فى هذه الرسالة نصًا ساخرًا رفيع المستوى شرح فيه أسباب حبه وهيامه بحيوان «الثور»، الذى افتتن به بعدما تعرف عليه عن قرب حينما كان فى مطلع حياته يعمل صحفيًّا ومراسلًا حربيًّا، وأقام بهذه الصفة فترة من الزمن فى شبه جزيرة أيبريا، حيث غطى أحداث الحرب الأهلية التى دارت رحاها فى عشرينيات القرن الماضى بين التقدميين (الجمهوريين) الإسبان وطغمة الرجعيين الفاشيين الذين انتصروا فى نهاية المطاف، وحملوا الجنرال فرانكو إلى سدة الحكم ليقيم نظامًا ديكتاتوريًّا عاتيًّا، جثم عقودًا طويلة فوق صدر إسبانيا.
ومن الأسباب التى أسر بها هيمنجواى لصديقه الناقد فى تلك الرسالة الثمينة، واعتبرها حيثيات قوية تبرر انحيازه وتفضيله الثيران على بنى البشر، أن هذه الحيوانات «لن تجد أيًّا منها يتجرأ على العمل بمهنة ناقد، ولن تجد ثورًا يتنطح ويكتب أدبًا»، «الثور عادة لا يقترض منك ولا من غيرك نقودًا»، فضلًا عن أن «أنثى الثور لا تتوقع منك أبدًا أن تتزوجها، وتصنع منها امرأة فاضلة»، كما أن «قلة قليلة جدًّا من الثيران تعانى من داء الشذوذ الجنسى» .. إلخ.
والحق أن هذا النص العبقرى أغرانى بمحاولة تقليد فكرته المحورية، أى اختيار حيوان مسكين لا حول له ولا قوة أستطيع أن أتشطر وأتجاسر عليه من دون أن يكون قادرًا على إلحاق أى أذى بحضرتى، ولم أفكر كثيرًا قبل أن أهتدى إلى أن الحمار حيوان مناسب جدًّا لبيئتنا الوطنية، وأنه مؤهل أكثر من غيره لكى ألعب معه اللعبة نفسها التى لعبها بمهارة فائقة أرنست هيمنجواى الذى انتحر، وهو لم يكمل بعد الـ٦١ عامًا، لأنه ظن، مجرد ظن، أن طاقته وقدرته على الإبداع والكتابة المتوهجة وهنت وضعفت قليلًا!
وإذا شرعت الآن فى ممارسة اللعبة، فسأقول لحضرتك إن الحمير (لا مؤاخذة) يكفيها شرفًا، أنها على سبيل المثال لا الحصر:
- لا تقتل ولا تكذب أو تتاجر بالدين، ولا تعربد بالإرهاب والخراب.. كما لا تحاول جرجرة خلق الله إلى مهاوى التأخر.
- والحمير عمومًا مهذبة وطيبة ومتربية جيدًا، لذلك لن تجد حمارًا يغنى فى الحفلات، ولا يملأ «سيديهات» بنهيقه.
- كما أن الحمير لا تعرف النفاق أصلًا، ولم يجرؤ حمار واحد فى هذه الدنيا الواسعة على الكتابة فى الصحف السيارة أو العمل كمذيع فى تليفزيون ولا فى ثلاجة أو بوتاجاز أربعة شعلة وفرن..
صباح الفل.