لا تصدقوا أن هناك جنية طيبة ستظهر لكم فجأة، وتطوح بعصاها الصغيرة فى الهواء لكى تغير حياتكم إلى الأجمل. عذرًا، أنا أثق فقط فى وجود كائنات نبيلة تمد يدها للفقراء لكى يعملوا معها، ويغيروا عالمهم فى ظل رؤية معلنة تنحاز إلى المسحوقين والمظلومين.
الكائنات الخرافية بأشكالها العجيبة توجد فقط فى الحكايات والأحلام. الكائنات الأسطورية فى عصرنا ترتدى أجساد البشر، وتعيش فى ما بيننا، وتمتلئ بها أروقة الحياة. أغلبها كائنات شريرة، ومن بينها كائنات طيبة يندر وجودها، لكنه لا ينعدم.
عندما تجد نفسك واحدًا من البشر الأكثر حظًا الذين أتاحت لهم ظروفهم قسطًا وافرًا من الثروة أو الموهبة أو التعليم المتميز فى مجال يتيح له أن يعيش حياة لائقة سعيدة، ساعتها يكون أمامك اختياران. الأول أن تدارى على شمعتك وتكفى على نفسك وحياتك ماجورًا، لتنعزل وتستمتع بما وهبتك الأقدار من منح ضنت بها على غيرك، والثانى أن تختار الوقوف فى خندق التعساء قليلى الحظ وتستخدم مواهبك ومعارفك لتناضل من أجل حقهم فى حياة لائقة لم تتح لهم ظروفهم أن يستمتعوا بها مثلك. ساعتها تكون كائنًا أسطوريًّا طيبًا. هناك كثير من البشر يعرفون أن ما بيدهم من خير لن يدوم لهم التمتع به بسلام، إلا إذا تحقق على الأرض من حولهم قدر معقول من العدل. هؤلاء هم العقلاء الموضوعيون الذين يوظفون أنانيتهم فى إطارها الصحيح. لكن هناك قلة غيرهم تضرب المثالية بجذورها فى أرواحهم وعقولهم، فلا يقدرون على الاستمتاع تمامًا بما فى يدهم من خير إلا إذا أتيح لغيرهم أن يستمتعوا بمثله، وهؤلاء عملة نادرة تنتمى إلى طائفة الأنبياء والقديسين. ما الذى يدفع شابًا متيسرًا متعلمًا فى مقتبل العمر، ينتظره مستقبل عامر بالآمال والأحلام أن يثور ضد ظلم يتعرض له غيره فيتلقى رصاصة فى رأسه، أو يقضى أيامه جريح النفس والبدن بعيدًا عن أحبائه، يتعرض للذل والمهانة فى زنزانة قذرة رطبة، مضحيًّا من أجل آخر يلعنه، ويصدق من يزعمون أنه يقوم بتضحيته تلك لأنه ماسونى ملحد يعمل من أجل تحقيق أجندة خارجية كلفه بها المثليون والصهاينة؟! تتعاظم المصيبة أكثر عندما يُلبسه ذلك الآخر البائس ثوب الخيانة، بعد أن يمتلئ عقله بفحيح الكائنات الخرافية الشريرة من المتحولين والمتحورين الآكلين على موائد المنتصر فى كل العصور، فيقتنع تمامًا بأنهم المتبصرون العارفون الذين يريدون الخير له ولأطفاله! لا يمكننا بالطبع اتهام كل من يثقون، ويلتصقون بنظام منتصر بأنهم كائنات خرافية شريرة منافقة. هناك بالفعل من يعتقدون، بصدق، أن نظامًا ما يستحق أن نمنحه فرصة لكى يثبت أنه يعمل لصالح الوطن، وهناك غيرهم أيضًا ممن يؤمنون بصدق أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان فى مرحلة حرجة تعيشها بلادهم. لكن إذا كنت تصدق يا عزيزى ما يقوله لك أولئك وهؤلاء، يصبح لزامًا عليك وقتها أن تكون متسقًا مع نفسك، وأن تحتمل وجود من يختلف معهما بطريقة سلمية متحضرة، وأن تصدق أيضًا أنه ليس خائنًا أو طابورًا خامسًا لمجرد أنه يحلم بما يسخر منه الآخرون. إما أن تفعل هذا، وإما أن تمنح للأقوى صكًا على بياض لكى يسحق معارضيه. لكن لا تندم بعدها عندما يستدير ليسحقك إذا فكرت يومًا أن تختلف معه.
الكائنات الخرافية الشريرة التى ترتدى أجساد البشر هى فقط التى تبذل جهدها لإقناعك بأن تقبل بظلم غيرك وتعذيبه وعرضه على النيابة لتجديد حبسه، بطريقة روتينية مخجلة، دون أن يكون متهمًا على ذمة قضية محددة غير ملفقة تنظرها المحكمة أمام قاضيه الطبيعى. النظام الذى يسمح بهذا يلقى بورقة التوت التى تستر عورته. القادة العظماء والمفكرون الجهابذة الذين يطالبونك بأن تربط الحزام وتتقشف من أجل صالح الوطن يجب عليهم أن يربطوا أحزمتهم ويتقشفوا قبلك، وإلا صاروا كائنات خرافية شريرة دعوتها باطلة، تريد أن تأكل لحمك قبل عظامك، ولا خير يرتجى من ورائها. أتعجب كثيرًا ممن يطالبون العمال بأن يزيدوا من ساعات عملهم، وكأنما العاملون هم الذين يحددون خطط المصانع التى يعملون بها! هذه دعوة وهمية مضحكة. سياسات الحكومات ورؤيتها وقوانينها التى تصدر بناء على انحيازاتها هى التى تنظم مسيرة قطاعى الأعمال (العام والخاص) فى إطار خطة شاملة يتنامى خلالها الإنتاج ويعاد توزيع الثروة بطريقة عادلة. المصنع الذى ينتج خمس سيارات فى اليوم لن ينتج عشر سيارات بقرار من عامل يصحو من النوم معتزمًا زيادة الإنتاج من تلقاء نفسه! لا تتلاعبوا بعقولنا ومصائرنا. صارحونا بخططكم وبانحيازاتكم لكى نتقشف معكم راضين إذا اقتنعنا أنها تصب فى صالحنا. ساعتها طالبوا الناس بأن يساعدوكم من أجل تحقيقها. الكلمات عن التضحية لا تُلقى جزافًا هكذا فى الفراغ. الكائنات الخرافية كثيرة، وكل منا يؤمن بها بالقدر الذى يلائم عقله ومشاعره ومعارفه.