أتذكر كيف دفعنا المدرسين زمان دفعاً بمنتهى الغباوة إلى كراهية مادة الفيزياء بوصفها مادة معقدة، أتذكر أن أحداً من هؤلاء المدرسين لم يخبرنى أنا أو زملائى بأن الفيزياء هى السبب الرئيسى فى اختراع جميع الأجهزة التى نتعامل معها فى حياتنا تقريباً، الرادار واللاسلكى والراديو والتلفزيون والتليفون والموبايل والكومبيوتر وأجهزة التشخيص الطبية مثل أشعة إكس والتصوير بالرنين المغناطيسى والعلاج بالأشعة والنظارات والتلسكوبات ومسبارات المريخ والفضاء وأفران الميكروويف والكهرباء والترانزيستور والميكروفون، ربما لو أخبرنا أحد هؤلاء المدرسين بأن الفيزياء تقف وراء إختراع كل تلك الأجهزة لكانت استيقظت بداخل طفولتنا الشريدة غريزة المعرفة والتعلم، ربما لو أخبرنا أحدهم أنها تتعامل مع مفاهيم غامضة وجذابة لأى طفل كالفضاء والزمن لكنا قد انتبهنا، ربما لو القى بنا أحدهم بداخل أى معمل لآداء أى تجربة علمية ومشاهدتها بأم أعيننا على الحقيقة بعيداً عن الرسمة التوضيحية فى كتاب الوزارة لكنا قد أحببناها، إلا أننا نحن من نشأنا على ضفاف واقع تعليمى ملوث ومؤلم ينص على أنه.. "فيزيا إيه بس يا معلم.. ماهياش ناقصة كلاكيع".
لهذا، كلما وجدت أمامى فرصة للتعرف على أحد تلك العلوم الجميلة التى دفعونا فى المدارس زمان إلى كراهيتها انتهزت تلك الفرصة مُحاولاً تصحيح ذلك الخطأ القديم، تأتى كراهية الفيزياء على رأس تلك الأخطاء التى ينبغى على البنى آدم منا تصحيحها.
قادنى بحثى الفيزيائى إلى حوار منشور مع البروفيسير الأمريكى "ميتشيو كاكو" أستاذ علم الفيزياء حول كتابه الأخير الرائج "فيزياء المستقبل" (الحوار أجراه الصحفيان "فيليب بيثجى" و"رافاييلا فون بريداو" لجريدة دير شبيجل الألمانية وقام بترجمته إلى العربية الكاتب الرائع والمترجم المتميز أحمد شافعي)، فى الكتاب يتحدث "كاكو" عن أن أحفادنا فى المستقبل سوف يكونون أشبه بالآلهة من فرط ما سوف يمتلكونه من قدرات المسئول عن تزويدهم بها فى الأساس هو علم الفيزياء، ويقول: تخيلوا فقط أسلافنا فى عام 1900 ممن كانوا يعيشون فلا يبلغون من العمر فى المتوسط إلا تسعة وأربعين عاما ويسافرون بعربات تجرها الخيول، واتصالاتهم الدولية لا تعدو الزعيق على بعضهم البعض من الشبابيك، لو أن أولئك الناس رأونا اليوم والهواتف المحمولة على آذاننا والفيسبوك على شاشاتنا وكيف أننا نسافر بالطائرات لاعتبرونا سحرة.
يسألونه: تعال نقم برحلة قصيرة نغمض فيها أعيننا ونتخيل أننا نصحو فى صباح يوم من أيام سبتمبر سنة 2112، ماذا ترى؟
ـ أهم مما أراه، ما سيكون حاضرا فى كل مكان، الذكاء فى المستقبل سوف يكون فى كل مكان، مثلما الكهرباء فى كل مكان الآن، نحن نفترض الآن أن فى الجدار كهرباء وفى الأرض وفى السقف، فى المستقبل سوف نفترض الذكاء فى كل شيء، بل شدة الذكاء فى كل مكان وفى اللامكان. الأطفال سوف يتعلمون كيف يتلاعبون بالأشياء من حولهم بمجرد مخاطبتها أو التفكير فيها. سيعتقد الأطفال أن كل شيء حى، ولأن أول ما سنريد معرفته بمجرد الاستيقاظ هو ما الذى يجرى فى العالم، لذلك سوف نضع عدساتنا اللاصقة الذكية وفى غمضة عين نكون أونلاين، إن أراد الواحد معلومات أو أفلاماً أو واقعاً افتراضياً فذلك كله فى عدسته اللاصقة، ثم نسوق سياراتنا إلى الشغل، ولكننا سوف نتلاعب بسياراتنا نفسها بمجرد التفكير، فإذا أراد شخص أن تقله السيارة فسوف يفكر فى ذلك لا أكثر، ثم يكلمها فتسوق هى نفسها، لو أنك طالب جامعى فليس عليك إلا أن تغمض عينيك فيكون بوسعك أن ترى جميع إجابات الامتحان النهائى بمجرد استخدام عدساتك اللاصقة. سيلوِّح الفنانون بأيديهم فى الهواء فإذا بهم يبدعون أعمالاً فنية جميلة.
فى عام 2100 مثلاً حينما تكلم شخصا سوف تكلمه وأنت ترى أمام عينيك سيرته الذاتية من خلال عدستك اللاصقة الإلكترونية، إذا كنت تبحث عن علاقة عاطفية فكل ما عليك فعله التسجيل فى خدمة العلاقات العاطفية ثم عندما تسير فى الشارع ويسير الناس من حولك فإن وجوههم سوف تشع إن كانوا "متاحين،available"، إذا كلمك شخص ما بالصينية فإن عدستك اللاصقة ستترجم الكلمات إلى الإنجليزية، كما أن طبيعة الطب سوف تتغير من محاولتها إنقاذ الحياة إلى محاولتها تحقيق الكمال حيث سنصبح قادرين على إعادة ترتيب الجينوم البشرى.
ومن بين جميع الأجيال التى وطأت كوكب الأرض، نحن أول جيل يشهد بداية الحضارة الكوكبية، حيث نصنف نحن الفيزيائيين الحضارات بحسب الطاقة، "النمط واحد" هو الحضارة الكوكبية التى تستخدم الطاقة المتاحة على الكوكب ككل، وفى غضون مائة عام سنكون من النمط واحد، نحن بالفعل فى طريقنا إلى ذلك. سنسيطر على المناخ، سنسيطر فى نهاية المطاف على الزلازل والبراكين، أما "النمط اثنان" فهو النمط النجمى، سوف نسيطر على النجوم كما فى فيلم ستار تريك، ثم "النمط ثلاثة" هو المجرة كلها، حيث نسيطر على درب التبانة بأسرها.
كل تلك السيطرة التى تنتظر أحفاد أحفاد أحفادنا على المجرة تبدأ بكلمة واحدة يكرهها معظمنا ويرونها معقدة، على الرغم من أنها تخص جميع تفاصيل حياتنا، فيزيا. والسؤال الآن هو: عمركوش شفتوا عبث كده؟