الفوبيا، بعيدا عن السامعين والقارئين، هى حالة من الهلع والرهبة تنتاب المريض بها عند التعامل مع أشياء مختلفة لا تثير الخوف عادة لدى الشخص السوى، لدينا أشكال وألوان من الفوبيا (يطلقون عليها أحيانًا الرهاب): من الأماكن العالية إلى الأماكن المغلقة، ومن القطط إلى الطيور، لكنى لم أتوقع أبدًا أن يكون هناك من لديهم «ضحكوفوبيا» فى بلد الضحك والسخرية، وفى مجتمع يعشق بيت صلاح جاهين البديع «أجمل ما فيها الضحك والتريقة».
مناسبة الكلام بالطبع برنامج باسم يوسف المستمر من عصر مبارك إلى المرحلة الانتقالية الأولى مرورًا بزمن محمد مرسى ووصولا إلى المرحلة الانتقالية الثانية، وفى كل مرة يتعرض باسم وبرنامجه إلى هجوم تختلف مصادره، وتتنوع أسبابه ومبرراته، لكنه يكشف فى رأيى، وفى مستواه الأعمق، عن حالة هلع ورعب من السخرية والضحك، وكأن إسكات باسم يمكن أن يجعل الأمن مستتبًا، وكأن إيقاف برنامج «البرنامج» سيحل كل المشكلات، وسيجعل من الفسيخ شربات، وسيمنع المصريين من السخرية.
قبل تحليل وتفنيد حالة الهلع هذه، لا بد أن أذكر أولًا أنه من حق أى مشاهد أن ينتقد ويسخر من باسم وبرنامجه، ومن حقة أن يحتج عليه، وأن يقاطعه، كما أن حق التقاضى مكفول لأى مواطن يعتقد أنه تعرض للإساءة، وكاتب هذه السطور لا يتفق مع باسم على طول الخط فى آرائه، بل ولا يرى أن كل فقراته خفيفة الظل أو كاملة الأوصاف، لكن كل ذلك لا يعنى أن أنضم إلى المطالبين بذبحه، وما زلت أرى، رغم كل الملاحظات التى وجهت إلى «البرنامج»، إلا أنه ظل من الأشياء القليلة جدًّا التى تثبت أن هذا البلد عرف ثورة عظيمة فى يوم من الأيام.
لم يخترع باسم السخرية السياسية، لكنه نقلها إلى الفضائيات، بعد أن كانت مرسومة على أوراق البردى فى صورة حيوانات ترمز إلى أحوال مقلوبة، وبعد أن كانت سجينة هتافات ونكات مصرية مسجلة ومتداولة من أيام كتاب «الفاشوش فى حكم قراقوش» لخالد الذكر ابن مماتى، وصولًا إلى هتاف «يا توفيق يا وش النملة / مين قالّك تعمل دى العملة»، وبعد أن حملت الصحافة المصرية العظيمة لواءها فى القرنين التاسع عشر والعشرين: من مساخر يعقوب صنوع ورسومه ضد الخديو إسماعيل، ومقالات عبد الله النديم الخطيرة فى «التنكيت والتبكيت» و«الأستاذ»، إلى هجاء بيرم التونسى للسلطان / الملك فؤاد فى جريدة المسلة (التى هى لا جريدة ولا مجلة)، مرورًا بأهم مجلة ساخرة كاريكاتورية وهى «الكشكول»، التى تخصصت تقريبًا فى الهجوم على قائد وزعيم ثورة 1919 سعد زغلول زجلًا ونثرًا وتصويرًا، وذلك فى عنفوان مجده وشعبيته، واستمر الكاريكاتير المصرى بخطوط رواده الكبار كوسيلة قوية للسخرية السياسية، سواء قبل 1952 أو بعده، يكفى أن نتذكر رخا وزهدى وعبد السميع وحجازى وصلاح جاهين وبهجت عثمان، وكل نجوم مدرسة روزاليوسف، حتى نتأكد من أن مدرسة السخرية السياسية أقدم بكثير من ظاهرة باسم يوسف، بل إنها موجودة فى كل مكان فى شكل النكتة الشفاهية، التى تكاد تكون الصناعة المصرية الوحيدة التى نصدرها إلى العالم العربى كله.
لم يكن باسم يوسف موجودًا على الشاشة، عندما التمس عبد الناصر من شعبه أن يتوقفوا عن السخرية وترويج النكات بعد 1967، ولم يكن «البرنامج» موجودًا عندما انتشرت نكات المصريين حول «عام الضباب» قبل حرب 1973، إضافة باسم ليست فى الواقع إلا فى نقل السخرية السياسية إلى الشاشة، مواكبة لتغيّر خطير يقال له «الثورة»، وما برنامجه إلا مزيج بين طرق السخرية سالفة الذكر، من الكاريكاتير إلى الأغنية إلى فن القافية والقفشة، بل وعروض الأراجوز والمحبظاتية والمرتجلين فى الشوارع، التى لم تكن خالية من الإسقاطات والإفيهات الجنسية.
مرة أخرى، فإن ذلك لا يجعل من باسم فوق النقد أو الرفض، لكن العجيب أن كثيرين ممن انقلبوا على باسم كانوا من أشد أنصاره لمجرد أنه كان يسخر ممن أرادوا هم السخرية منهم، لم يكونوا وقتها يتحدثون عن الإفيهات الخارجة (كنت وما زلت أعتقد أن باسم لا يحتاج إلى تلك الإفيهات على الإطلاق)، لم يكن الضحك وقتها مخيفًا ولا مرعبًا، البعض الآخر اعتقد أن سخرية باسم من سياسى معين يمكن أن تسقطه شعبيًّا، بل وظنوا أن «البرنامج» هو الذى أسقط محمد مرسى، وهى آراء عجيبة تستحق التوقف عندها.
ما فعله باسم هو الكشف عن تناقضات موجودة فعلًا فى كلام أو سلوك من يسخر منه، أى أنه لا يخلق تناقضًا من الهواء، إنما يتبرع كثيرون بتقديم مادة جاهزة إليه فى كل أسبوع، لن أذكر أمثلة معروفة لشخصيات استخفت بعقول المصريين، وقررت أن تكرر وعود الإخوان البلهاء التى سخر منها المصريون فى الشارع قبل أن يسخر منها باسم، شخصيات تعتقد أن المصريين ضعاف الذاكرة يمكن أن تبيع لهم الفنكوش، والمذهل أن أحدًا لم يعتبر بمصير مبارك وحزبه، ومرسى وجماعته، هؤلاء هم الذين حرضوا باسم على السخرية، وهؤلاء هم الذين سخر منهم المصريون على المقاهى أو على فيسبوك قبل أن يسخر منهم برنامج «البرنامج».
الذى أسقط مبارك أو مرسى ليس نكتة ولا برنامج، الذى أسقطهما حماقات تتضاءل بجانبها تجاوزات باسم أو أى برنامج، لو اجتمعت كل برامج الدنيا الساخرة، وكل نكات المصريين، لما استطاعت الإطاحة برئيس يحترم شعبه، ويعمل على خدمته، ويأتمر بنبضه، ويستحى أن يكذب عليه، ويعتبر كرامة مواطنيه من كرامته، إذا أردت أن تلوم من كشف تناقضات الآخرين، عليك أن تلوم أولًا من يقوم بتسويق تلك التناقضات الفنكوشية، وإذا كانوا قد أرادوا قطع عيش باسم يوسف بمنتهى البساطة، لوجب عليهم منع تلك الأكاذيب التى تنهمر على الناس دون خجل أو حياء، أما أن تسمح بأن يسخر البعض من عقول الناس، ثم تمنع موقف باسم «الجاد» الذى يرد السخرية بأحسن منها، فإنك فى الحالة من تقدّم العرض الساخر وليس باسم، أنت الذى تقدم المسرحية الهزلية الخارجة، ثم تمنع الناس من الضحك، لأنك وحدك الذى تعتبرها مسرحية جادة.
ويا أنصار الضحكوفوبيا: امنعوا باسم أو احبسوه، فلن تستطيعوا أن تمنعوا المصراوية من أن يردوا السخرية عليكم، إذا تخيلتم (مجرد تخيّل) أنكم قادرون على أن تضحكوا علينا.. ههههههههه. كان غيركم أشطر.