ألمحت في المقال السابق أنني سأكتب عن مهزلة التفكير التاريخي لقطر، ووصلتني إيميلات كثيرة حول هذا الموضوع بعضها يتضمن معلومات، وبعضها عبارة عن تعليقات ساخرة، واتصل بي كثيرون يحرضونني بطريقة «وريهم ولا الـ..»، وأمس قلت لصديق إنني سأؤجل الكتابة عن موضوع قطر، فهب في وجهي غاضبًا من دون أن يسألني عن سبب التأجيل، وبعد أن هدأ قليلا قال: «عيب إنت وعدت القراء في نهاية مقالك السابق بأنك ستكتب عن هذا الموضوع». طريقته الجادة الغاضبة «جت معايا بالعكس»، حيث بدت تشنجاته مضحكة، فقلت له: «يا أخي عادي». أهم مسؤول في البلد دي وعد وتعهد، ورجع في كلامه عشان «الضرورة».. مفيهاش حاجة يعني لما استغل الضرورة مرة، وبعدين يا أخي أنا ألمحت ولم أصرح وأؤكد. قال الصديق بانفعال أقل: «وإيه هي الضرورة اللي غيرت رأيك؟». قلت: «أريد أن أحيي السيسي وأدافع عنه». تحول وجهه إلى علامة تعجب كبيرة، وهو يقول: «غريبة.. إزاي يعني؟». إلى هنا لا داعي لاستكمال الكلام الطويل مع الصديق، لأن الكلام معكم أهم، فأنتم الشعب وأصحاب القضية. أنتم طبعًا تعرفون أن الأسبوع الماضي شهد حالة من النقاش والتحليل والتحريض والتندر والسخرية من دعوى التقشف التي وردت في خطاب السيسي الأخير، وتصاعدت الحالة إلى ما يشبه «الحملة المخططة»، حتى إن قناة الجزيرة أعدت تقريرًا مصورًا وفتحت على كرة اللهب أنبوبًا ضخمًا من الغاز القطري المسال، كل هذا، لأن الرجل تحدث بصراحة عن حقيقة الأزمة المالية التي تهدد مصر، وضرب أمثلة رمزية لسياسة الترشيد والتقشف، وهي بالمناسبة سياسية عالمية تطبقها أكبر وأغنى الدول في العالم، حتى إن أمريكا عطلت ميزانيتها أسابيعًا ودخلت في أزمة أدت إلى شلل الحكومة نفسها لحين تضييق فارق العجز في الميزانية الجديدة وفرض سياسة تقشف بالمليارات، وهو أمر لا يختلف كثيرًا عما تنفذ الحكومة الائتلافية في بريطانيا منذ سنوات. واحد عاقل منكم سيفحمني بقوله إن التقشف في هذه الدول يتم على الجميع، وليس على الشعب فقط. وهذا كلام صحيح ومطلوب، لكن لدي عدد من الأسئلة لهذا العاقل، ولبقية العاقلين والساخرين، للمخلصين المدافعين عن قوتهم وقوت أولادهم وللمتربصين الذين يستغلون الفرصة لصناعة الفتن وإشعال الحرائق:
1- هل كان حديث السيسي قرارًا أو إعلانًا لخطة تقشف، وبالتالي يمكننا الحديث بجدية عن تفاصيل من نوع سيطبق على من، وفي أي بنود، وعلاقة ذلك ببنود الموازنة والرواتب، وما إلى ذلك؟
2- هل نظر أحد إلى الموضوع باعتباره مؤشر قياس لرد الفعل الجماهيري في حال تعرض الشعب مثلا لضغوط من أي نوع (وليست معيشية فقط).. يعني ظروف حرب، حصار اقتصادي، مقدار طاقة العمل التي تتطلبها مشروعات قومية طويلة الأجل متأخرة العائد مثل السد العالي سابقا، واستصلاح الصحراء وإعادة توزيع الخريطة السكانية حاليا؟
3-ما الذي يضطر رجلا يفكر في خوض انتخابات أن يبادر بمثل هذا الحديث، فالمعروف عندنا أن العكس هو الذي يحدث.. الإسراف في الوعود الانتخابية (والمرشح يعمل البحر طحينة وبعد كده ابقوا قابلوني)، لكن في هذه الحالة ألا تجدون نوعًا من الشفافية والنبل، فالرجل أعلن بنفسه في مارس ما تم تسريبه في يناير، ويقول لكم: «المشروع عندكم أنتم، أنتم عايزين أمة تبقي ليكوا شأن.. أنا عارف سكتي.. بس هتمشوا معايا تستحملوا.. هل هتستحملوا أمشيكوا على رجليكم.. تستحملوا أصحيكوا الساعة 5 الصبح كل يوم، تستحملوا إن الأكل ننكمش فيه، تستحملوا التكييف ننكمش فيه.. تستحملوا إن أشيل الدعم مرة واحدة.. تستحملوا ده مني». وقال إن الرئاسة لغيره قد تكون ترفًا، لكن مع السيسي لأ.. «السيسي ده عذاب.. ومعاناة» الكلام صريح واستباقي، وليس بعد أن جاء بأصواتكم، وهذا كلام محترم ونزيه من رجل محترم ونزيه، فهو لم يطلب من الشعب ربط الحزام وهو في السلطة كما فعل مبارك، فما الذي يدعو للسخرية في كلام صريح عن المستقبل (إذا أردتم) أم أنكم تتصورون أن السيسي «حاوي هيضرب بالعصاية ع البرنيطة ويطلع مصر أد الدنيا ويغرف رواتب بالعبيط في دولة مأزومة تتسول رغيفها؟
4- هل تحولنا إلى شعب من التنابلة يخاف من العمل وسيرته، ويتفنن في التهرب من التزاماته، ويكرس مجهوده لمطالبة الحكومات بـ«هات حسنة وأنا سيدك».
5- ولماذا قبل هذا الشعب العظيم من عبدالناصر خطابًا من هذا النوع طالب فيه بنفس التقشف وأكثر، قبل أن يقول لأمريكا إن معونتها «ع الجزمة»؟ وهل يستطيع أي حاكم مصري أن يصنع قدرًا لبلده، وأن يقول لأكبر دولة على الأرض مثل هذه الكلمة إلا إذا كان لديه شعب عظيم يسنده؟، وهل يعني ذلك أن شعبنا العظيم تحول إلى مجرد أسد جائع قد يلتهم مدربه متعللا بآلام الجوع؟
لن أزيد في مثل الأسئلة، سأتوقف عند مفارقة الزمن، وأطرح عليكم أسئلة أخرى أكثر وجعًا. هل نحن نفس الشعب الذي غنى مع عبدالوهاب «جئت لا أعلم من أين» ثم مر الزمن ليعتبر أن الأغنية نفسها كفرًا، وغنى مع حليم «لسه شفايفي شايلة سلامك» قبل أن يعتبر المعنى إباحيًا، فتضطر الإذاعة لحذف الكوبليه الأخير كله من أعنية «أول مرة»؟ هل نحن نفس الشعب الذي تعلق برومانسيات نزار قباني، وردد مع أمل دنقل «المجد للشيطان معبود الرياح» ثم تبرأ من كل هذا واستغفر الله من هذا الرجس؟ هل نحن نفس الشعب الذي الذي استقبل فتاة تونسية اسمها «بيه الرحال» وصنع مجدها باسم عليا التونسي، عندما غنت من كلمات مصطفى الضمراني «مانقولش إيه ادتنا مصر ونقول ح ندِي إيه لمصر»؟ لقد صارت عليا مصرية أكثر من مصريين كثيرين في هذه الأيام، وظلت أغنيتها ملمحًا وطنيًا ننشده في طابور المدرسة والمناسبات القومية، لكن الأغنية للأسف أصبحت مثارًا للتهكم والسخرية والابتذال! وأنا اليوم أوضح للمشير السيسي، أنني كنت وما زلت ضد ترشحه لمثل هذه الأسباب.. علينا يا سيادة المشير أن ننأى بك وبالجيش بعيدًا عن هذا الهبوط السياسي والمعيشي.. على السياسيون أن يخوضوا معترك السياسة بكل ما وصلت إليه الأرض من تجريف.. وعلى الاقتصاديون أن يتحملوا عبء الحسابات والموازنات.. وعلى التعليم والإعلام والثقافة أن ينتبهوا لتأسيس وعي البناء بدلا من وعي الهدم.. علينا أن نتذكر شوقي وأم كلثوم ونغني معهما «ومانيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا»، وإلا سنفضح أنفسنا ونقول للعالم إننا أصبحنا شعبا من الجياع، مش طايق نفسه، وممكن يقتل أخوه عشان اللقمة! وسامحوني على الصراحة الجارحة، فلا وقت للمسايرة في المسخرة.