أول من أمس كان موعد اليوم العالمى للمرأة، وقد شهد هذا اليوم نشاطات وفاعليات عديدة انتشرت فى أرجاء وأصقاع مختلفة من كوكبنا، غير أن أشدها إثارة وأقواها استقطابا للأضواء واهتمام وسائل الإعلام العالمية، كان قيام سبع نساء ينحدرن من بلدان إسلامية «تونس ومصر وإيران»، وإقامتهن الدائمة الآن فى فرنسا، بتنظيم تظاهرة احتجاجية غريبة، إذ قمن بخلع كل ملابسهن حتى تلك التى تستر عوراتهن وكتبن على أجسادهن العارية كلمات وعبارات تندد بما تتعرض له المرأة فى بلادنا من قمع وتهميش واستغلال. وقد وقع اختيارهن على باحة متحف اللوفر فى قلب مدينة باريس ليكون مسرح تلك المظاهرة العجيبة، وأمضين وقتا ليس قصيرا فى هذه الباحة الواسعة المكشوفة والمفتوحة على أزحم شوارع العاصمة الفرنسية وأكثرها ضجيجا!!
وبدا لافتا أن البوليس الفرنسى أبدى تسامحا غير معتاد مع هؤلاء النسوة، وتركهن يتحركن ويركضن براحتهن، وهُنَّ على هذه الصورة الشاذة حول الهرم الزجاجى الضخم المنصوب فى فضاء الباحة، بينما جذب المشهد الفريد جمهورا كثيف العدد توقف يتابعه ويلاحق بطلاته، وهُنَّ يتقافزن ويهتفن بالشعارات نفسها المرسومة على جثامينهن!!
غير أن جمهور النظارة والمشاهدين هذا بدا رد فعله هو أيضا مثيرا وغريبا، إذ بسرعة تجاوز المتجمعون فى باحة المتحف العتيد منطقة الاندهاش، ثم غرق أغلبهم فى «كريزة ضحك»، تحولت إلى ما يشبه «مظاهرة قهقهة». صحيح أن أكثر هؤلاء الضاحكين عبروا بكلمات أو إشارات عن نوع من التضامن والتعاطف مع القضية العادلة «رغم طريقة التعبير الفضائحية، فالقضية عادلة فعلا»، التى دفعت النسوة هؤلاء إلى التظاهر عاريات، لكن قهقهاتهم التى أجمعت التقارير الإعلامية على تسجيلها مع إشارات تشى بالاستغراب، جعلتنى أعود إلى كتاب نادر فى نوعه وموضوعه، قرأته من سنين طوال، ألفه قبل أكثر قليلا من مئة عام «1911» الفيلسوف الفرنسى ذائع الصيت هنرى برجسون الحائز على جائزة نوبل للأدب.. الكتاب عنوانه كلمة واحدة هى «الضحك»، وفيه تكاد الفلسفة وحزلقاتها الصعبة تقف عند حدود المقدمة لا تتعداها إلى باقى الفصول والصفحات التى كرسها برجسون للبحث فى «الوظيفة الاجتماعية للضحك»، باعتباره واحدا من أقدم السلوكيات وأدوات التعبير الإنسانى.
يقول الفيلسوف الذى نزل فى هذا الكتاب من برجه العاجى إلى قلب عاديات الحياة البشرية: «إن الضحك نشاط جماعى وليس فرديا (أحيانا يأخذ صورة العدوى) فالمرء عادة، أو فى أغلب الأحوال لا يضحك إلا بالاشتراك أو بالتواطؤ مع شخص آخر».
وقد استخلص برجسون من تأملاته ومن مطالعاته لنظريات واجتهادات أعضاء مدرسة التحليل النفسى التى أسسها سيجموند فرويد، وأطلق منتجاتها العلمية فى وقت معاصر تماما لكتاب الضحك، أن هذا الأخير «هو رد فعل آلى ضد كل ما يبدو لنا فى الحياة، وآليا أيضا، فالضحك يحدث تلقائيا فى كل مرة نلاحظ فى كلام وتصرفات شخص ما إفراطا فى النزعة الميكانيكية».
والبشر جميعا فى رأى هذا الفيلسوف الفرنسى المفرط فى جديته وتحفظه، يضحكون ليس فقط من مواقف تعكس عيوبا ونواقص، و«لكننا نضحك أيضا فى مواقف تتجسد فيها معانٍ عكسية، أى تلك التى تكون فيها الفضائل بارزة واضحة»، ورغم ذلك تثير فينا رغبة عارمة فى الضحك والقهقهة، لأنها ربما تتلوث وتكتسى بملامح سلوك ميكانيكى يشى ويفضح بدوره شيئا من الادعاء وعدم الصدق.. هنا تصبح «القهقهة» جرس إنذار يُدوى منبهًا بأن ها هنا يحدث أمر يجافى ويتعارض مع الاستقامة والحس السليم.
صباح الخير.