«1»
السجن
اشتركت مع ثلاثة آخرين فى جريمة قتل، وحكم علينا بالسجن لأربع سنوات، كنت مندهشًا طوال التحقيق من أننى تورطت فى جريمة ما، ولكن عند إعادة تمثيلها أمام النيابة وجدتنى أنا تحديدًا الذى قمت بقتل الرجل بأن كممته لمنعه من الاستغاثة.
تقبلت السجن بصدر رحب واعتبرته فرصة للاستجمام ولقضاء أيام هادئة بلا تشويش، قمت بتجهيز حقائبى، وكان ما يهمنى أن أجمع أكبر قدر ممكن من الكتب والأدوية.
كانت سيارة الترحيلات فى طريقها إلى السجن تمر بإحدى الأسواق عقب صلاة الفجر، فى السوق كنت أتابع باعة جائلين يبيعون فواكه اللحوم ويقومون برصها وهم يروجون لها بأغنيات فاحشة.
كنت شغوفًا بالتجربة ومندهشًا من أولئك الذين يخشون السجن.
فى اليوم الأول صحوت واتجهت إلى ساحة صغيرة موجودة داخل مبنى كبير ملىء بعشرات المساجين الواقفين يدخنون إلى جوار شباك مغلق.
اشتريت من الحارس علبة سجائر، ثم اتجهت ناحية الشباك، وأشعلت سيجارة، ثم فتحته ليدخل بعض الهواء النقى، ارتعب الحراس وهرعوا باتجاهى قائلين: إن فتح الشباك ممنوع، هنا انقبض قلبى بشدة وشعرت أن السنوات الأربع القادمة ستكون مليئة بالاكتئاب.
«2»
الرائحة
كان عالمه السحرى فى الطفولة هو مطبخ الجدة، كانت رائحة المطبخ هى كلمة السر التى يدلف من خلالها إلى تلك البهجة، كان يقوم من فراشه ليلًا ويتسلل إلى المطبخ والبيت كله نائم ليستنشق ما تيسر من السعادة والطمأنينة، ثم يعود إلى فراشه فوق حصان بأجنحة.
بمرور الوقت كان يفك شفرة تلك الرائحة.
فى السادسة عرف أن جزءًا منها هو رائحة الخميرة المستخدمة لخبز العيش صباحًا.
فى السابعة ميّز رائحة السمن البلدى وقد فتته الحر.
فى الثامنة اكتشف رائحة النعناع المجفف.
فى التاسعة.. خليط خزين الشاى والسكر.
فى العاشرة كان يميز رائحة دماسة الفول وهى ترقد فوق نار هادئة طول الليل.
فى الحادية عشرة كان خليط رائحة السبرتو والبن المحوج فوق صينية إعداد القهوة.
فى الثانية عشرة ماتت الجدة.. لكن البيت لا يزال عامرًا بالأهل والسكان.
هو لا يزال يتسلل إلى المطبخ من يومها كلما زار المنزل، وفى كل مرة يجد كل شىء فى مكانه بالضبط، ولكن لا رائحة.
«من كتاب طريق التوابل».