أنا فى انتظار عرض فيلم «نوح» لاستمتع بتلك الحكاية الجميلة عبر وسيط الصورة الذى لم يكن موجودًا أيام زمان، وقت ظهور الأنبياء على الكوكب. لو كان وسيط الصورة موجوداً أيامهم لكنا قد رأينا حكاياتهم بالصوت والصورة، ولكانت القيم الجميلة والسامية التى دعوا أبناء البشرية إليها قد انتشرت بشكل أسرع عبر «تشيير» حكاياتهم تلك على «اليوتيوب»، إلا أن وسيط الصورة لم يكن قد اكتُشِف بعد، تلك هى كل المسألة. ولو كانت البشرية لم تصل إلى فكرة اللغة بعد فى أيامهم لكنا قد نظرنا إلى قَص حكاياتهم عن طريق الحَكى والكلام كما ينظر إليها البعض الآن عن طريق الصوت والصورة، بنفس المنطق الخاص بأنه «ما يصحش» و«حرام». وهو المنطق المثير للتساؤلات، حيث أنه كيف تصبح حكاية جميلة لنبى من أنبياء الله، تحتوى على الكثير من قيم التفانى والإخلاص لصالح استمرار التجربة البشرية على قيد الحياه، حكاية تخص أبناء الكوكب جميعهم، نحن ورفاقنا فى تجربة الحياه والموت، أصدقائنا من الحيوانات والنباتات، على ذلك الكوكب بسبب ما فعله «نوح»، كيف تصبح مشاهدة حكاية عظيمة لرجل عظيم وصالح ومفكر ومجتهد مثل النبى «نوح» مثيرة لكل ذلك الجدل الدائر عقب الإعلان عن نزول فيلم «نوح» الذى يحكى قصته فى دور السينما المصرية فى أواخر شهر مارس الحالى؟
سوف تفكر بكافة السبل وتقلب الموضوع على جوانبه المختلف حتى تصل فى النهاية إلى نفس ذلك التساؤل الأزلى: ليه ما ينفعش نشوف قصة النبى نوح على الشاشة؟ إيه اللى ممكن يضر صورة النبى العظيم «نوح» فى أذهاننا إذا ما رأيناها مجسدة على الشاشة؟ خاصةً وأن ما فعله من خلال تنفيذ دوره المسند إليه فى السكريبت السماوى الأعظم كمنقذ للبشرية من الطوفان يخصنا جميعًا، جميعًا بمعنى كلمة جميعًا، إيه اللى ممكن يخلى مشاهدة تلك الحكاية حاجة غلط وفعل غير مستحب وموضوع مُثار يدلى الجميع فيه بدلائهم من الآراء المختلفة؟ ليه؟ المسألة أبسط بكثير من كل تلك التعقيدات، فالحكايات تُروى عن طريق ما هو متوفر من وسائط. الحكايات تُروى عن طريق آخر ما توصلت إليه البشرية من وسائط وطرق مختلفة للحكى. والسينما أحد تلك الوسائط، وقريبًا سوف تخترع البشرية وسيطاً جديداً سوف نحكى عن طريقه حكاياتنا بتاعة دلوقت، تلك هى قواعد تلك الحياه الغامضة التى نعيشها، والتى على الرغم من امتلائها بما يكفى من تعقيدات إلا أننا نأبى الإكتفاء بكل تلك التعقيدات ونُصِرّ على تعقيدها أكثر مما هى معقدة أصلاً.
إنها مشكلتنا الأزلية، الفهم غير الصحيح وعدم التحلى بالقدر اللازم من المرونة للتعامل مع الحياه. لو فكر أجدادنا الأوائل كما يفكر بعضنا الآن لما كانت البشرية قد انجزت أى شيء يخص أى حاجة. تطوروا، فنحن لم نصبح كبشر أسياد هذا الكوكب على الرغم من أننا ربما كنا الكائنات الأضعف -و ذبابة صغيرة تحمل بداخلها فيروس لا يكاد يُرى بالعين المجردة قد يقضيان علينا فى مجرد ثوان معدودات- إلا بقدرتنا على التطور والتكيف مع ما يبزغ فى أدمغتنا من افكار قد تخالف فى بعض الأحيان ما نشأنا وكبرنا على أساس أنها هى الحقيقة الوحيدة. تخيلوا معى مثلاً مشهد «جاليليو جاليلي» وهو يخبر البشرية منذ قرون ويفاجئها بحقيقة جديدة تخالف كل ما نشأت تلك البشرية عليه مُخبراً إياها أن الأرض كروية تدور حول نفسها وأنها تدور حول الشمس وبالتالى فنحن لسنا مركز الكون ولا حاجة كما كنا نتصور وإنما نحن مجرد نقطة من عدد لا محدود ولا نهائى من النقاط الضائعة فى فضاء لا نهائى. تخيلوا معى صدمة البشرية حينها، طبعاً إتُهِمَ العالم العبقرى وقتها بالهرطقة والهرتلة وهدم ما تعاملت معه البشرية على أساس أنه هو الحقيقة النهائية الوحيدة، هذا طبعاً بالإضافة إلى أنه بحقيقته الجديدة تلك كان كمن ضرب كرسى فى كلوب سيطرة رجال الكنيسة وقتها فى العصور الوسطى على السلطة والثروة والنفوذ والجاه وقصر الملك بذات نفسه.
إننا كل فترة نعيد نفس الكُرَّة ولكن بشكل مختلف مع حقيقة جديدة مختلفة تخالف ما اعتدنا أنه هو الحقيقة، وننسى فى ذلك الإطار الحقيقة الأهم التى تنص على أنه.. لو كنا قد توصلنا إلى كل الحقائق لما كنا لا نزال على قيد الحياه ولما كانت الحياه لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، إلا أننا لم نتوصل إلى كثير من الحقائق التى عندما نكتشفها سوف تدحض وتعدل حقائق أخرى لا نكاد نتصور حياتنا بدونها أو بحقائق أخرى مخالفة لها. نحن حتى لم نتوصل إلى معظم الحقائق التى سوف تتوصل إليها البشرية فى يوم من الأيام. نحن أصلاً لم نتوصل إلى حقيقة شىء بعد.