كان يومًا شتويًا بامتياز، البرد قارص والشمس غائبة ودوائر من مطر في حجم حبات المشمش تتساقط بتلاحق واندفاع، مظلات الكافيتريا المهترئة فشلت فى حمايتنا من البلل وقذارة قماشها لوّثت ملابسنا عندما امتزج المطر بترابها العتيق، هرعنا إلى المبنى الذي به مدرجات الدراسة، طابقه الأول به فسحة كبيرة أمام مدرجيه الاثنين الأيمن والأيسر، تكتلنا طلبة وطالبات أمام أبواب المدرجين، ساد الصخب والضجيج المكان ولم يتوقف إلا بمرور نصف ساعة وحلول موعد بدء المحاضرات، كان المطر قد خفت قطره بعض الشيء فغادر بعض الطلبة وهم يحمون رؤوسهم بالصحف وينطلقون تجاه الكافيتريا، بقية الطلبة دخلوا إلى المدرجين إما اهتمامًا بالدرس أو اتقاءً لصحتهم من هذا الطقس السيئ.
دخلت إلى مدرجي كي أتابع درسًا ثقيلًا بالنسبة لي لسابق رسوبي في مادته عامين متتاليين، كان الدرس خاص بمادة نظرية اسمها «التمويل» مكتوبة بلغة جافة ومليئة بالإحصائيات فكرهتها، ولم أبذل جهدًا في مذاكرتها، لكني هذه المرة قررت أن أنجح فيها بأي ثمن حتى لا يصبح مصيري الطرد خارج الكلية، دخل أستاذ المادة المدرج وأغلق الساعي خلفه الأبواب حتى لا يدخل أو ينصرف أحد من المحاضرة، أمسك الأستاذ بـ«طبشورة» وكتب عنوان الدرس على «السبورة»، ثم تابع كتابة عناصر الموضوع الذي سيحدثنا بشأنه، كان موقعي في الصفوف الأولى لضعف نظري وعدم رغبتي آنذاك في ارتداء نظارة وأنا حدث السن، بينما الأستاذ يكتب وقف طالب كان يجلس أمامي وبدا مرتبكًا، أنهى الأستاذ كتابته ودار بجسده فوجد الطالب واقفًا، ودون أن يسأله عن سبب وقوفه «شخط» فيه ونهره، فجلس الطالب في خجل شديد، كانت المنافذ الزجاجية المتراصة في أعلى المدرج قد بدأت تسمح لأشعة الشمس بالدخول واشرأبّت أعناق الطلبة إليها، أعتقد أن بعضهم مما لاذ بالمدرج خوفًا من المطر ندم وتأسف وهو يرى الجو يعود صحوًا بالخارج، وسيُحبس ساعتين بعد أن أُغلقت أبواب المدرج.
بدأ الأستاذ محاضرته وهو يجلس خلف المنضدة التي تتصدر المسرح، والميكروفون ثابت على قاعدته أمامه يتلقى كلماته الهادئة ويعيدها إلينا هادرة، ثم تجلى الأستاذ في محاضرته ونهض كعادته ممسكًا بالميكروفون في يده وتخلى عن مكتبه وهو يقترب من حافة المسرح يلقي درسه من مخيلته، ويروح ويجيء على الحافة كالمطربين الذين يستعرضون مهاراتهم، وفي لحظة ما قرر أن يُكمل شرحه وهو ثابت في مقدمة المسرح- أمام الصف الذي أجلس فيه بالضبط- كان الميكروفون بيده يتحرك بسرعة يمينًا وشمالاً ثم يتوقف للحظات أمام فمه، وكانت أشعة الشمس المتسللة من أعلى تصطدم بجسد الميكروفون الفضي فتتناثر ومضات ذهبية في اتجاهات شتى، ثم نهض الطالب الذي أمامي والذي سبق أن نهره وسخر منه الأستاذ، لكن في هذه المرة كان بيده مسدس عريض صوّبه بسرعة شديدة تجاه الأستاذ وأطلق منه طلقة واحدة.
كان صوت الطلقة مدويًا وأعقبه صراخ هستيري من الطالبات وإغماءات من شباب الجنسين، بينما نجح الطلبة الذين يجاورون الطالب المعتدي في الإمساك به وإفلات المسدس من يده، هرعنا تجاه الأستاذ الذي كان قد سقط أرضًا، لكن أغلبنا لم يتمكن من رؤيته أو معرفة مدى إصابته، لكننا توقعنا عدم نجاته لقرب المسافة التي أطلقت منها الرصاصة.
كانت هذه أول مرة في حياتي أرى فيها محاولة قتل وأرى مسدسًا حقيقيًا، وكان ذلك شيئًا مذهلاً ومخيفًا بالنسبة لي في ذلك الوقت، ولزملائي أيضًا الذين شهدوا الواقعة، جاءت سيارات الإسعاف والنجدة على الفور وحملوا الأستاذ إلى المستشفى والطالب المعتدي إلى قسم الجيزة.
قبل مغادرتنا للمدرج كنا قد تأكدنا من نجاة الأستاذ عقب أن رأيناه يقف شاحبًا وممتقعًا وطبيب الإسعاف يفحص جسده ويطمئنه، في مصادفة تحدث مرة في المليون اندفعت الطلقة تجاه عنق الأستاذ المحاضر في ذات الوقت الذي أعاد فيه الميكروفون أمام فمه مستكملاً شرحه، فاصطدمت الطلقة بالميكروفون وتحول اتجاهها إلى الجدار الذي أخلفت فيه ثغرة ملحوظة.
وضع الضابط علامة حول الثغرة بالحائط، ثم حرّز الميكروفون الذي انبعج جزء من جسده من قوة الطلقة، وطلب متطوعين للشهادة فذهب معه بعض زملائنا، أُودع الطالب في مستشفى للأمراض العقلية، وتبيّن من التحقيقات أنه رسب في هذه المادة مرتين وكان خائفًا جدًا من أن يرسب في ذاك العام ويُفصَل من الجامعة نهائيًا، لذا قرر اغتيال أستاذ المادة باعتباره المتسبب في ضياع مستقبله.
في امتحان نهاية العام، لم يفارقني مشهد الطالب المعتدي وهو يرتعد من الخوف بمجرد دخوله سيارة الشرطة، ولا مشاهد الهلع التي صاحبت انطلاق الرصاصة، وفي امتحان المادة التي بسببها حدثت الواقعة، كتبت إجابات أسوأ بكثير من المرتين اللتين أخفقت فيهما، لكني فوجئت بنجاحي في هذه المادة بتقدير مقبول!! وفي ذلك العام لم يرسب أحد في تلك المادة.
حسن الحظ الذي حلّ بي في ذلك العام، كان قد زارني قبلها بعامين عندما دخلت كلية التجارة وأنا من خريجي القسم الأدبي بالثانوية العامة، وقابلتني مشكلات جمّة في مادة الرياضة البحتة في عامي الأول بالكلية، ودخلت امتحان نهاية العام في تلك المادة، وعندما تسلمت ورقة الأسئلة ورأيتها أشبه بطلسم كبير من الطلاسم التي تغلق بها القوارير التي يحبس فيها الجن والعفاريت، لم أستبشر خيرًا، وللحقيقة لم أحل سؤالاً واحدًا فيها وتوقعت صفرًا كبيرًا في نتيجة نهاية العام مع تقدير ضعيف جدًا «ض ج»، غير أني حصلت على درجة الامتياز في تلك المادة، دهشت وذهلت ولم أتحدث بشأن هذه الواقعة، حتى لا تراجع الورقة وأحصل على حقي وهو الصفر، لكني في العام التالي غالبني الفضول للتقصي حول هذه الواقعة، وكنت أعرف بعض الأصدقاء من أعضاء اتحاد طلاب الكلية، الذين عرفوني برئيس الاتحاد، وفي جلسة صفاء أخبرته بالأمر، فضحك كثيرًا وربت على كتفي وهو يقول «إنت محظوظ أوي»، ثم أخبرني بأن أستاذ المادة كان يصحح أوراق أسئلة ذلك العام كعادته في الشاليه خاصته بالإسكندرية، وهبّت رياح طيبة عفية أطارت من أمامه 15 ورقة، وأكمل التيار الجميل وسحبهم إلى عمق البحر، خشى الأستاذ من إعطاء درجات غير مناسبة لتلك الأوراق المجهولة، فقد يتقدم أحد أصحاب هذه الأوراق بالشكوى ويدفع الرسوم المقررة لإعادة التصحيح، وعندما تنعقد اللجنة المحايدة لفحص الأوراق المعترض على نتائجها لا تجد الأوراق فيحاسب الأستاذ ويعاقب، لذا تجنبًا لهذا الموقف المحرج اضطر الأستاذ لإعطاء الدرجة القصوى لكل ورقة محظوظة.
تخرجت في كلية التجارة وعملت محاسبًا في عدد من الشركات الكبرى، ثم وصلت إلى منصب المدير المالي، واعتزلت المحاسبة وتفرغت للكتابة، لكن الغريب أنه عندما تزداد التوترات والضغوط وتهاجمني ليلاً الكوابيس، أغلب هذه الكوابيس لا يخرج عن ترشيحي لمنصب مهم، ثم اكتشاف أني لم أنجح في هاتين المادتين ويجبروني على الالتحاق بالكلية مرة أخرى، لكي أتلقى دروسًا مرة أخرى في المادتين، بعدها يعقد لي امتحانًا فيهما حتى أنجح، مؤخرًا هاجمني كابوس أعجب، وجدت نفسي في وسط خيمة الامتحانات جالسًا، والمراقب يمر ويترك لي ورقة مادة التمويل لكي أجيب عن الأسئلة، كنت أكبر الطلبة سنًا وكانوا ينظرون إليّ ويبتسمون خلسة، وكانت الأسئلة معقدة جدًا، وكلما نظرت إلى ورقة الأسئلة كان القلم بيدي يتضاءل وورقة الإجابة تكبر جدًا، ثم بدأ جسدي يتقلّص وتضخمت الورقة واحتلت كل جدران وسقف الخيمة، واختفى الطلبة والمراقبون، ووجدت نفسي في حجم عقلة الإصبع، وبدأت ورقة الأسئلة تتشكل وتتحول إلى قرطاس كبير التفّ حولي وأغلق نفسه على جسدي، جعلني عاجزًا عن التنفس.
من قال إننا لا نُعاقَب في دنيانا هذه!
عقاب بأثر رجعي
مقالات -