مكانة عرابى بين رفاقه كان لها ثقلها الذى يجعل أسرة تتكبد مشقة الانتقال من بيت إلى آخر من أجل أن توفر له راحته
أسرة يعقوب سامى تركت بيتها فى كاندى لعرابى وبحثت لنفسها عن بيت آخر
البارودى كان أول من غادر العاصمة وانتقل إلى كاندى بعد زواجه بكريمة يعقوب سامى عام 1888
يعقوب سامى كان يكبر عرابى بست أو سبع سنوات
وزارة السياحة فى سريلانكا تفرض على كل فندق أن يخصص مأوى مجانيا للسائقين الذين يصحبون السياح فى رحلاتهم بالجزيرة
حينما وصلت إلى مشارف كاندى كان همّى الأول وهمّ السائق الذى أخذنى إلى هناك أن نتوجه مباشرة إلى البيت الذى نزل به عرابى عند انتقاله إليها، والذى كنت قد أخبرته عن الشارع الذى يقع فيه. وقد أخذنى السائق مباشرة إلى الشارع، وهو شارع والولوا Walloluwa Road، الذى يبدو أنه يقع الآن عند أحد مداخل المدينة المتعددة. وقد آثر السائق أن يدخلها من ناحيته، لأنه كان أول ما شاهدته من تلك المدينة الجميلة التى أمضيت فيها يومين رائعين ومترعين بالتواريخ العرابية فيها، لكننا لم نستطع أن نعثر على أى أثر أو دليل يشير إلى البيت الذى أبحث عنه، بل وقالت لنا واحدة من سكان هذا الشارع المتعلمات، وهى مدرّسة كما ذكرت، أنا ما لدى من معلومات عن وجود بيت فى هذا الشارع تحول إلى متحف كبير خاطئة. وكانت على حق! لأن بيت عرابى الذى تحول إلى متحف كبير وجميل لا يقع فيه. وكنت أنا أيضا على حق لأن عرابى سكن فى هذا الشارع فور انتقاله إلى كاندى، تاركا العاصمة كولومبو وراءه بكل ما حملته له من خير وشر. وقد انطوت إقامته فيها على خير كثير، وتردد عليه بها عديد من الزوار المرموقين (جاء بعضهم إليها خصيصا من أجله، مثل ويلفريد بلنت الذى لم يدع العام يمر على نفى صديقه حتى قدم إليه زائرا فى منفاه كى يطمئن على أحواله فى المنفى ويتزود بنصائحه ومطالبه التى حرص على أن ينوب عنه فى تنفيذها)، كما عرفت بعد زيارتى لمتحفه (أقصد بيته) فى كاندى، وهو أمر قد نعود إليه مرة أخرى بعد قليل.
وكنت قد قرأت فى أثناء بحثى فى المراجع السرلانكية منها والإنجليزية عن تاريخ العرابيين فى هذه الجزيرة أن محمود سامى البارودى كان أول من غادر العاصمة وانتقل إلى كاندى، بعد زواجه من كريمة يعقوب سامى عام 1888، وبعد أن يأس فى ما يبدو من أن تلحق به زوجته من مصر، والتى لم تغادرها معه، وسرعان ما انتقل على إثره يعقوب سامى وأسرته إليها، حيث كان طبيعيا أن تلحق الأسرة بزوج ابنتها من ناحية، لتكون بالقرب من ابنتها الشابة التى تزوجت البارودى وهى فى عمر الزهور، حيث كانت فى السادسة عشرة من عمرها حينما تزوجته. واستقر يعقوب سامى وأسرته فيها، أولا فى بيت صغير فى شارع ترينكومالى (Trincomalee) ثم بعد فترة فى ذلك البيت انتقلوا إلى بيت هالولووا (Halloluwa House)، وهو البيت الذى تركه يعقوب سامى لعرابى حينما وفد إلى كاندى عام 1892. وعاد هو إلى بيت شارع ترينكومالى، ثم إلى بيت الناسك أو الصومعة (Hermitage House) وهو البيت الذى بقى فيه مع أسرته، حتى مرضه، ثم وفاته فى 29 أكتوبر عام 1899 ودفنه فى مقبرة ماهياوى (Mahaiyawe Cemetery) فى كاندى إلى جوار قبر محمود فهمى الذى سبق دفنه فى هذه المقبرة عام 1892 قبيل انتقال عرابى إلى كاندى.
إذن، وبعد تمحيص ما لدى من معلومات اكتشفت أن المدرّسة كانت على حق، حينما أصرت على أنه ليس ثمة بيت تحول إلى متحف فى شارع هالولووا. وكنت أنا أيضا على حق حينما أكدت أن عرابى نزل فى هذا الشارع فور انتقاله من كولومبو إلى كاندى، وأقام فيه لأكثر من عام. وأريد من القارئ أن يتريث قليلا عند هذه الحقيقة التى جعلنى إصرار المدرّسة على خطأ معلوماتى أتأملها طويلا. ماذا يعنى أن تترك أسرة يعقوب سامى بيتها الذى استقرت فيه لعدة سنوات لعرابى حينما وفد إلى كاندى، وتبحث لنفسها عن بيت آخر، أو تعود إلى بيت شارع ترينكومالى الذى سبق أن تركته بحثا عن بيت أفضل؟ ألا يشير ذلك إلى أن مكانة عرابى بين رفاقه كان لها ثقلها الاجتماعى إن لم نقل والأخلاقى أيضا الذى يجعل اسرة تتكبد مشقة النقل من بيت لآخر من أجل أن توفر له راحته؟ خصوصا إذا ما عرفنا أن يعقوب سامى كان يكبر عرابى بست أو سبع سنوات. أليس هذا دليلا على ما لعرابى فى نفوس رفاقه من معزة واحترام؟ هل هى مهابة الزعيم؟ أم تراها قدرة عرابى الإنسان على أن يستأثر باحترام الآخرين ويحظى بمودتهم؟ وكان هذا التأمل دافعى إلى المزيد من البحث عن بيت عرابى، فاستجبت لنصيحة المدرّسة وطلبت من السائق أن يتوجه بى إلى المسجد القريب الذى وصفوا لنا موقعه.
وقادنى السائق إلى مسجد صغير ليس له من مهابة المساجد أو جمالها شىء، لأنه ليس أكثر من غرفة واسعة نسبيا تحت عمارة، ومحاط بالدكاكين من الناحيتين فى شارع تجارى أشبه بسوق للخضراوات والفواكه كأى سوق شعبية نجدها فى أحياء المدن الصغيرة. وذكّرنى المسجد بتلك المساجد القبيحة التى انتشرت فى مصر بعد الانفتاح الساداتى الكئيب استفادة من بعض القوانين التى تعفى العمارات التى تخصص جزءا أو فسحة محدودة من دورها الأرضى للعبادة، من بعض الرسوم أو الضرائب، كرشوة للضرائب، أو تهرب منها، أو رياء للمجتمع على السواء. ولما خلعت حذائى ودخلت المسجد لم أجد به أحدا، فأخذت أصيح هل ثمة أحد هنا؟ عندها انفتح باب صغير فى زاوية من تلك الغرفة/المسجد عن حارس كان نائما بملابسه الداخلية فى غرفة ركنية صغيرة، وقد خلع جلبابه وعلقه على مسمار فى حائطها، فانتزعه منه وارتداه بسرعة كى يقابلنى. وقد وجدت صعوبة كبيرة فى التعامل معه، فقد كانت إنجليزيته ضئيلة إلى حد كبير لا تسمح بأى تفاهم. كما أننى اكتشفت أنه لا يعرف من العربية شيئا، اللهم إلا كيفية ترديد بعض السور بطريقة ببغائية لا تشى بفهمه لأى من معانى كلماتها. كل ما استطعت أن أفهمه منه هو أن علىّ أن أتوجه إلى «الكلية الزاهرة» فى كاندى، وكانت لحسن الحظ قريبة. فقادنى السائق إليها، ولكننا لم نجد بها هى الأخرى غير الحارس، فقد كان اليوم هو يوم السبت، وكانت العطلة قد بدأت، ولم يعد بالمدرسة غير مدرس الرياضة البدنية يدرب فريق الكرة بها استعدادا لمباراة قادمة فى ما يبدو. وطلب منى العودة صباح الاثنين لمقابلة مدير المدرسة الذى لا بد، وأنه يعرف الكثير عن مؤسس تلك المؤسسة التعليمية الكبيرة.
هنا صدمتنى حقيقة أن اليوم هو يوم سبت، وهو يوم العطلة الأسبوعية مع اليوم التالى الأحد، وكان الحل أن أنتظر حتى الإثنين لأسأل مكتب الاستعلامات السياحى، أو ألتقى مدير «الكلية الزاهرة» علّه يعرفه. وكان الوقت قد تأخر، وغابت الشمس، فطلبت من السائق أن يأخذنى إلى الفندق الذى حجزت به عن طريق وكيل الرحلات اللندنى، فى ريجينت لودج (Regent Lodge) باسمه الإنجليزى الواضح، والذى لم أكن أعرف عنه شيئا غير أنه يقع فى 172 Riverdale Road، Kandy، وأن ثمة كثيرا من الشهادات الإيجابية عنه ممن نزلوا فيه. وكان أول ما طلبه منى السائق، حينما اتفقت معه على الرحلة، وأخبرته بأننى حجزت مسبقا لليلتى الأولى فى كاندى، هو اسم الفندق الذى حجزت فيه ورقم تليفونه. وما إن جاء لصحبتى فى صباح اليوم التالى حتى وجدته متذمرا ومشتكيا من أن الفندق الذى حجزت فيه ليس به مأوى للسائقين، وأن النظام السياحى المعتمد من وزارة السياحة يفرض على كل فندق أن يخصص مأوى مجانيا للسائقين الذين يصحبون السياح فى رحلاتهم بالجزيرة، وأنه يستطيع أن يوفر فندقا أفضل منه وأرخص لى، وبه علاوة على هذا كله مكان للسائقين، ويطلب منى بإلحاح لما عرف أننى لم أحجز به سوى ليلة واحدة، أن لا أبيت ليلتى الثانية فيه، خصوصا وقد قلت له إن من الضرورى البقاء فى كاندى حتى الإثنين، كى ألتقى مدير «الكلية الزاهرة». وأصرّ على رأيه بأنه سيوفر لى فندقا أفضل وأرخص، كى يجد هو الآخر به مكانا يبيت فيه دون أن يضطر إلى دفع تكاليف إقامته، وهو أمر لم يحسب له حسابا فى ترتيبه لرحلته معى، ووافقته على ذلك.
ولم أكن أعرف تلك التفاصيل، لكنى علمت فى ما بعد أن هناك نظاما دقيقا تفرضه وزارة السياحة، يسهل الأمر على السائحين، ويجعل صحبة السائقين لهم أمرا ميسورا، بصورة تجعل تأجير سيارة مع سائقها فى سريلانكا أرخص من تأجيرها دونه فى غيرها من البلدان، لذلك تنصح جميع الأدلة السياحية الزوار باستئجار سيارة مع سائقها، لأن السائق ضرورى كى يبقى مع السائح طوال الوقت، للقيام بكثير من الأمور التى تحتاج إلى اللغة المحلية، أى السنهالية، التى لا يتوقع أن يعرفها أى سائح، ناهيك بالتصرف فى أى أمر طارئ مثل عطل السيارة مثلا، أو وقوع حادث لها، لهذا توفر كل الفنادق السياحية التى ينزل فيها السائحون عادة غرفة واسعة يبيت فيها السائقون معا، كما تقدم لهم وجبة عشاء مجانية كذلك. ناهيك بأن بعضها يقدم لهم عمولة إضافية لو جلبوا لها زبائن لم يسبق لهم الحجز فيها مقدما، كما هو الحال فى صناعة السياحة فى كل مكان، ويتيح هذا النظام الذى وجدته فى كل الفنادق من أكثرها رقيا حتى أبسطها، للسائقين الاحتكاك ببعضهم البعض، وتبادل الخبرات، حيث يقضون وقتهم ينمّون ويتسامرون ويحكون عن تجاربهم مع زبائنهم، وهكذا عرفت أن المرأتين الفرنسيتين اللتين تقيمان فى الشاليه المجاور لذلك الذى نزلت فيه فى سيجريا فى ما بعد مثليتان، أمضى سائقهما الشاب الليل يحكى لزملائه عن غرابة أطوارهما، وعن أنه سيواصل التجوال معهما فى مختلف أنحاء الجزيرة لعشرة أيام كاملة، وهو الأمر الذى شعرت أن سائقى يغبطه عليه، ليس لطول المدة فقط، ولكن لامتلائها بالحكايات الجديرة بأن تروى.
ومع أن ريجينت لودج (Regent Lodge) أثار سخط السائق وغضبه إلا أنه كان مفاجأة سارة لى، فما إن دخلت إلى بهوه الصغير الرحب معا، بسقفه العالى ونوافذه الكبيرة حتى شعرت بأننى أدلف إلى بيت خاص يتسم بالجمال المعمارى والذوق الراقى. و«ريجنت لودج» فعلا كما يقول اسمه (أى الكوخ أو البيت الصغير) بيت خاص لمحاسب متقاعد، صممه له على حافة أحد تلال كاندى الكثيرة واحد من أشهر معماريى هذه الجزيرة كما قال لى. ولأن البيت كبير، وعلى ثلاثة طوابق تحت الطابق الأرضى الذى ندلف إليه من الشارع، تزداد مساحة كل طابق كلما ارتفعنا دورا بسبب انحناءات الصخرة/التل، فقد قرر الرجل أن يؤجر الغرف الثلاث التى يتكون منها الدوران السفليان. وأن يعيش هو فى الدور الثالث الذى يقع فيه مكتبه وغرفة نومه، ومطبخ كبير يشرف بنفسه على طباخه ونادله الوحيد. بينما جعل الدور الأرضى، الذى ندلف إليه من الشارع، فضاء المعيشة المفتوح على منظر طبيعى خلاب، حيث تترامى تحته فيلات وبيوت عديدة وسط غابة من الخضرة الاستوائية اليانعة. أثثه الرجل بذوق وحساسية تهتم بالمساحات الفارغة قدر اهتمامها بقطع الأثاث واللوحات. ويضفى عليه السقف المرتفع والنوافذ الكبيرة المفتوحة على أفق لا نهائى من الأشجار والأزهار سحرا خاصا. وكان الرجل يتكلم الإنجليزية بطلاقة، وبلكنة من تعلم فى بريطانيا، أو فى أفضل المدارس البريطانية فى الجزيرة كما اتضح لى فى ما بعد. وكان لا يقل ضيقا بلجاجة السائق عن ضيق السائق به، وشرح لى أنه لا يستقبل السائقين، لأن هذا بيته الخاص. يستضيف فيه عددا قليلا من السائحين، بصورة توفر له هو وزوجته حياة أفضل، من تلك التى يوفرها له معاش تقاعده. يوظف فيها طباخا وخادما كى يقدما الطعام والشراب لنزلائه، ولكن قبل كل شىء له هو وزوجته التى تعمل مدرسة لنصف الوقت، وفق ذوق راقٍ، وبأسلوب حياة لا يتوفر عادة إلا للأرستقراطية السنهالية والأثرياء.
وبعد أن صرف السائق، وطلب من خادمه أخذ حقيبتى إلى الغرفة، سألنى إن كنت أريد أن أذهب إلى غرفتى لأغتسل أو أستريح، أو أن أسترخى فى هذا البهو المفتوح الجميل كى يقدم لى مشروبا. فطلبت منه أن يحضّر لى مشروبا وأننى سأغتسل بسرعة وأعود لأرتشفه معه على مهل. فقد كان البيت فى منطقة سكنية فى قلب الغابة أو التل الأخضر، منطقة بعيدة قليلا عن العمران التجارى، حيث كان آخر دكان صغير شاهدته من السيارة وأنا فى الطريق إليه على مبعدة عدة كيلومترات. فليس ثمة مكان غير البيت إذن للأكل أو الشرب فيه. وعرفت أنه رغم أن من يحجز عنده يحجز غرفة للمبيت مع الإفطار فإنه على استعداد لتلبية كل ما يطلب زائره من طعام أو شراب و(كله بحسابه طبعا). ولكن الفرق أنك تشعر هنا بأنك ضيف فى بيت سريلانكى من الطبقة الراقية، يحتفى بك صاحبه، ولست عابرا فى فندق. وما إن عدت إليه أكثر نشاطا حتى وجدت الشراب جاهزا، وأخذت أتحدث معه وأنا أستمتع بالشراب البارد وأرتشفه على مهل، وكأننى فعلا ضيف على صديق. وكان الرجل متعلما ومثقفا عركته الحياة، ووسع ضيوفه أفقه ومداركه. وقد أخبرنى الرجل بكثير عن تاريخ سريلانكا القريب، ولكن ما أدهشنى منه أنه ما إن ذكرت له ما أبحث عنه، حتى عرف على الفور بيت أحمد عرابى، الذى كان لحسن الحظ على مبعدة كيلومتر واحد من بيته، وإن كان لا يعرف كثيرا عنه. وأخبرنى أنه سيشرح للسائق فى الصباح مكانه، وكيف يأخذنى مباشرة إليه. وأخذ الرجل يحدثنى عن بيته الذى كان فخورا به، فهو أهم ما أنجزه فى حياة عملية مديدة.
والواقع أننى حسبت نفسى محظوظا بالنزول صدفة فى هذا البيت الجميل، فقد أمضيت فيه أمسية هادئة أتحدث مع سريلانكى متعلم ومثقف أيضا، لذلك سألته عن أحوال بلاده، وعن جذور ما يعرفه العالم من حرب أهلية طويلة بين الحكومة وحركة «نمور التامل Liberation Tigers of Tamil» استمرت لستة وعشرين عاما (1983- 2009). وكلفت الجزيرة أكثر من مئة ألف قتيل، بما فى ذلك الرئيس السريلانكى رانسينجا بريماداسا (Ranasinghe Premadasa) عام 1993. كما يعزى لنمور التامل أيضا اغتيال رئيس وزراء الهند راجيف غاندى من قبله عام 1991. وقد أرجع فى تفسيره لهذا التاريخ الدامى الطويل الذى لمست ضيق كل من تحدثت معهم من السريلانكيين منه، إلى سولومون باندارانيكا. واسمه بالكامل Solomon West Ridgeway Dias Bandaranaike وينطوى على اسم أحد آخر حكام سيلان من الإنجليز «ويست ريدجواى» الذى كان عراب ولادته، لأن أباه كان يعمل مترجما له. ومع أن الأب كان مسيحيا أنجليكانيا (على دين سادته الإنجليز) فإن الابن الذى تعلم فى أرقى مدارس سيلان الإنجليزية ثم فى جامعة أوكسفورد، ارتد إلى البوذية حينما عاد ليلعب دورا سياسيا فى بلاده. وألف حزبا قوميا متشددا يدعو للعودة للغة السنهالية، والتخلى عن الإنجليزية كلغة رسمية للبلاد، واستلهام الاشتراكية سبيلا لتحقيق العدل الاجتماعى، وقصر الجنسية والوظائف على السنهاليين وحدهم، بعدما كان الإنجليز يحابون الأقلية التاملية فى إدارتهم للبلاد. وقد وصل حزبه إلى الحكم عام 1956 فى انتخابات حقق فيها فوزا كاسحا. ويعزو مضيفى شرارة تلك الحرب المدمرة، رغم أن جذورها الغائرة تمتد فى تاريخ سيلان الاستعمارى، وسياسة «فَرِّق تَسُد» الإنجليزية الشهيرة إلى وصول باندرانيكا للحكم من 1956-1959 وإصداره قانونه سيئ الصيت «للسنهاليين فقط Sinhala Only Act» عام 1956، والذى قصر الوظائف الحكومية وحتى الجنسية السيلانية بعد الاستقلال على السنهاليين فقط، ما جعل ثلاثة أرباع المليون من التامل وقتها بلا جنسية، مثلهم مثل البدون فى الكويت أو السعودية.
ومع أن حكم باندرانيكا لم يستمر غير ثلاث سنوات، فقد اغتاله لمرارة المفارقة راهب بوذى سنهالى عام 1959، إلا أنه أشعل شرارة التعصب الطائفى بين البوذيين والهندوس. والتى خمدت قليلا بعد أن وصلت زوجته سيريمافو باندارانيكا (Sirimavo Bandaranaike) إلى الحكم عام 1960، لكنها سرعان ما انفجرت إلى حرب أهلية شاملة عام 1983. والواقع أننى لم أكن قد سمعت عن باندرانيكا الزوج من قبل، وإنما كانت معلوماتى قاصرة على زوجته التى حكمت سيلان بين 1960 -1965، وكانت تتردد على مصر فى زمن عبد الناصر، وكانت أول امرأة فى العالم تتولى حكم أى بلد فيه وعنصرا فاعلا فى حركة عدم الانحياز. وكما ثقفنى الرجل عن تاريخ سريلانكا القريب والعصيب، وضعت عرابى وتاريخه على خارطة وعيه ببلده وعلاقته الوطيدة بمصر، التى لم يكن يعرف أنها تعود إلى هذا التاريخ البعيد. وانتظرت فى شوق طلوع الصبح، كى أذهب إلى بيت عرابى ومتحفه.