تقول الموسوعات العلمية إن الصقر يعيش سبعين عامًا، ولكنه إذا بلغ سن الأربعين أصابه الوهن والعجز، ويصبح منقاره القوى معكوفًا غير قادر على الهجوم به، وتصير أجنحته ثقيلة، ويلتصق ريشه بصدره، مما يقلل قدرته على الطيران، وتفقد مخالبه مرونتها، حتى إنه يعجز عن الإمساك بفريسته، ويكون أمامه خياران.
الأول: أن يستسلم لمصيره، ويموت إما جوعًا أو بأنياب ومخالب حيوانات وطيور أخرى، والثانى: أن يتحدّى وضعه البائس مهما كلّفه الأمر من آلام وتضحيات، ويقوم بعملية تغيير شاملة، فيصعد رغم صعوبة الطيران إلى قمة الجبل، حيث يتّخذ له كهفًا يعيش فيه، ثم يضرب منقاره فى الصخر حتى يتحطّم، وينتظر حتى ينمو من جديد، وبعدها يكسر أظافره الهرمة، وبعد أن تنمو مرة أخرى، ينتف ريشه العجوز، ويستبدله بريش يافع، وبذلك يعود صقرًا قويًّا شابًّا، قادرًا على التحليق والطيران عاليًا، والانقضاض على فريسته بسهولة، وهكذا ومن قمة المعاناة التى تستمر خمسة أشهر، يولد الصقر من جديد.
مصر منذ سنوات وهى مثل الصقر المستباح، فقد شاخت وأصبح لها منقار معكوف، ومخالب ضعيفة، وأجنحة لا تستطيع التحليق بها. أربعون عامًا من الفساد، جعلتها فى أوهن حال، وجرّأت عليها مَن هم دونها تاريخًا وعراقة وحضارة، وبعد أن تراجعت فى كل المجالات وباتت لا حول لها ولا قوة، أصبح يتكالب عليها الأعداء من كل جهة، بعضهم يأتى من الخارج، ويحاول أن يملى عليها إرادته ويسيرها كما يشاء، ويوجهها إلى حيث مصالحه، وبعضهم كامن فى الداخل يعبث بأمنها، ويسرق قوتها، ويقتل أبناءها، ويستبيح نساءها.
مصر وهن العظم منها واشتعل رأسها شيبًا، فخلال أربعين عامًا خرجت من قائمة أفضل خمسمئة جامعة فى العالم، ودخلت قائمة أكبر الدول فسادًا، وحقّقت معدلات عالمية فى إصابة أبنائها بفيروس سى وأمراض الكبد، والسكر، والأورام، والفشل الكلوى، وعانى شبابها من البطالة، وبناتها من العنوسة، وشيوخها من الفقر، ونساؤها من التحرّش، وانتشرت فيها الرشوة، واستغلال النفوذ، وتحكّم قلة من رجال الأعمال فى اقتصادها، والتزاوج بين المال والسلطة، ومات أهلها غرقًا فى العبَّارة، وحرقًا فى القطار، وقتلًا فى حوادث الطرق، ويحكم شوارعها البلطجية، ويعربد فيها اللصوص، ويستأسد فيها الحرامية.
هذه هى الحال التى ثار عليها الشعب فى 25 يناير، وفى 30 يونيو، وهما الثورتان اللتان أحيتا الأمل فى التغيير وفى رجوع الشيخ إلى صباه، لكن هناك طرفين يريدان استمرار مصر الضعيفة الواهنة، الأول يحاول إعادة إنتاج نظام مبارك بكل فساده وسجونه ومعتقلاته، والثانى يرغب فى حبسها داخل قفص لصالح جماعة الإخوان وتقزيمها لتصبح مجرد ولاية فى دولة الخلافة المزعومة، والاثنان رغم اختلاف مصالحهما فإنهما يستخدمان نفس الوسيلة، حيث يشيعان اليأس فى نفوس المواطنين، مستغلين فى ذلك الآلام الكبيرة التى تصاحب العودة للشباب، وعدم قدرة البعض على تحمّل تغيير المنقار العجوز والمخالب الواهنة والريش المنتوف، ولكن هل يدرك مَن يسيرون وراء هؤلاء أنهم يسارعون بوفاة البلد وأنهم يجعلونها مستباحة.
أمامنا الآن طريقان، إما أن نفعل مثل الصقر الجرىء، ونتحمّل الألم لفترة وإن طالت، حتى تعود مصر شابّة وعفيّة وقوية وقادرة على التحليق من جديد، أو أن نستسلم، وننتظر إعلان وفاتنا ونحن ننشد كلمات الشاعر الكبير أمل دنقل:
سنة سوف تمضى
وأخرى سوف تأتى
فمتى يقبل موتى
قبل أن أصبح مثل الصقر
صقرًا مستباحًا