عندما تطالب بعض القوى السياسية المدنية بمرشح مدنى لتولى رئاسة مصر، فإن ذلك لا يعنى انتقاصًا من قدر القوات المسلحة أو إنكارًا للاحترام الذى تحظى به فى أوساط المصريين، على اعتبار أن الجيش المصرى مؤسسة وطنية ينتمى لها الجميع ويقوم بالخدمة فى صفوفها، ولكن الغرض هو إحداث نقلة نوعية فى تطور نظامنا السياسى الذى يبدو جامدًا متجمدًا منذ عقود، وحافظ عليه بدأب شديد الرئيس المخلوع حسنى مبارك، مضيفًا إلى معالم الاستبداد من تزويرٍ للانتخابات وإعلامٍ موجه وأجهزة أمنية قمعية، وفسادٍ غير مسبوق استفاد منه أفراد أسرته والمقربون منهم، بينما بقت غالبية الشعب تعانى الفقر وسوء الخدمات وامتهان الكرامة الإنسانية.
فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، انتشرت الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال عن الاستعمار الأوروبى (إنجليزى وفرنسى) وكانت مؤسسات الجيش الناشئة فى دولنا هى عادة الأكثر تطورًا والأوفر حظًا فى التعليم والاتصال مع الآلات الحديثة والعالم الخارجى، مقارنة بشعوب غلبت عليها الأمية والفقر. ولذلك انتشر النموذج الذى قدمه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى العديد من الدول العربية، مثل سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن، حيث تولى الجيش الحكم وكانت له دائمًا الكلمة الفصل بما يمتلك من وسائل قوة وأسلحة متطورة من دون محاسبة أو مساءلة.
كما أن سياق الحرب الباردة التى كانت قائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق، والتنافس على إقامة القواعد العسكرية فى دول العالم الثالث، وحالة الحرب مع إسرائيل منذ عام 1948، كانت كلها مبررات لاستمرار سيطرة المؤسسة العسكرية على شؤون الحكم، خصوصًا مع خوض حروب متكررة فى 1956 و1967 و1973. ففى حالات الحرب، يتراجع الحديث عن الديمقراطية وتداول السلطة والحق فى تشكيل الأحزاب، مقابل الدعوات إلى الوحدة الوطنية فى مواجهة العدو الخارجى الذى يحتل الأرض. ومن هنا برز شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» والذى ما زال ساريًّا حتى الآن، رغم اختلاف أنواع المعارك والحروب. ولكن المهم هو استمرار حالة الحرب والاستنفار ضد أى عدو خارجى أو داخلى من أجل تبرير الاستمرار فى قمع الحريات وخضوع القائمين على الحكم للمساءلة والمحاسبة.
انتهت رسميًّا حالة الحرب بين مصر وإسرائيل بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد الشهيرة فى 1979، أى قبل 35 عامًا، كما انتهت الحرب الباردة بانهيار سور برلين الشهير فى نهاية عام 1989، أى قبل 25 عامًا، ولكن النظام السياسى فى مصر رفض اعتبار هذه تطورات تستحق أن يصاحبها انفتاح داخلى فى مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، والإقرار بحق الشعوب فى مراقبة ومحاسبة حكامهم على أساس أننا جميعًا مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات. وبقى مبارك حتى اللحظات الأخيرة من حكمه متمسكًا بلقب «قائد الضربة الجوية الأولى» فى حرب أكتوبر 1973، التى جرت قبل أربعين عامًا، ورغم كل ما كانت تربطه من علاقات متينة مع رؤساء وزراء إسرائيل المتعاقبين وحلفائهم فى البيت الأبيض فى واشنطن.
وعندما هتف ملايين المصريين «الجيش والشعب إيد واحدة» فى أعقاب الإطاحة بالرئيس المخلوع فى 11 فبراير 2011، فلقد كان ذلك تعبيرًا عن الثقة فى أن المؤسسة العسكرية ستنحاز إلى رغبة الشعب فى الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية بعد أن فاض الكيل من نظام امتهن الكذب والفساد وتزوير الانتخابات بفجاجة وحديث المؤامرات الخارجية وتخوين المعارضين واحتكار الوطنية. كما كان الأمل كبيرًا فى أن تدعم المؤسسة العسكرية الوطنية بناء نظام ديمقراطى حديث، تكون الكلمة الفصل فيه للمسؤولين المنتخبين عبر الإرادة الشعبية، من دون أن تتمتع مؤسسة بعينها بالحصانة أو عدم الخضوع للمساءلة والمحاسبة على اعتبار أن ذلك «يهدد الأمن القومى،» أو أن تحتكر تلك المؤسسة شؤون الحكم بزعم أنها الوحيدة القادرة على إدارة شؤون البلاد بما لديها من خبرات وكفاءات لا تتوافر فى بقية المؤسسات.
وفى الأسابيع التى سبقت الموجة الثورية الشعبية فى 30 يونيو، كانت الرسالة واضحة من المؤسسة العسكرية، وهى أنها لا تنوى مجددًا تكرار أخطاء مرحلة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى أعقاب الإطاحة بمبارك، والتدخل فى شؤون السياسة، وأنه إذا كانت قد قررت الانحياز إلى الشعب، فإن ذلك تأكيدًا للدور الوطنى للجيش المصرى، وإدراكه للعواقب الخطيرة التى تسبب بها أسلوب الإخوان المسلمين فى حكم البلد والذى بلغ حد التهديد بحرب أهلية وطائفية وما يصاحبها من انهيار اقتصادى واجتماعى سيضر بالجيش نفسه.
إقدام المشير السيسى على التصريح علنًا بأنه «لن يدير ظهره للشعب»، وأنه ينوى خوض انتخابات رئاسة الجمهورية أنهى بالفعل ما وصفه بحالة «الحيرة» التى كانت تسود المشهد السياسى فى انتظار قراره النهائى، رغم قناعة الكثيرين بأن حالة «الحيرة» هذه كانت جزءًا من استراتيجية التشويق ودفع المزيد من المواطنين إلى التعبير عن رغبتهم العارمة فى اختيار المشير رئيسًا، وذلك لكى يبدو أنه خضع لإرادة الجماهير وليس رغبة منه شخصيًّا فى الترشح.
ولكن إعلانه الترشح أضعف كذلك الأمل أننا بصدد إحداث نقلة فى نظامنا السياسى الثابت منذ اثنين وستين عامًا. وبدلًا من الحديث عن بناء جمهورية جديدة يقودها مرشح مدنى يتم انتخابه عبر الإرادة الشعبية، ويخضع للمساءلة والمحاسبة، فإن الداعمين لحملة «السيسى رئيسى» يشنون هجومًا ضاريًّا على الأحزاب السياسية والديمقراطية وحتى مبدأ التعددية نفسه، معتبرين أن من سيقدم على منافسته «خائن» للإجماع الوطنى وغير قادر على تقدير حجم المخاطر التى تهدد الوطن خارجيًّا وداخليًّا. نعم قدم الرئيس الإخوانى السابق محمد مرسى نموذجًا كارثيًّا كأول حاكم مدنى لمصر منذ 1952، فإن ذلك لم يكن يعنى التخلى عن طموح بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تخضع فيها كل المؤسسات للمساءلة والمحاسبة، وهو ما لن يتحقق بإعلان المشير السيسى قراره خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.