سحب الدول الخليجية الثلاث لسفرائها من الدوحة هو بداية لحرب معلنة، تعطى فيها إشارة فتح النيران على سلطة الحكم في هذه البلدان شخوصا وسياسة، حيث تتولى كل من وزارة الخارجية والدفاع القطرية المعروفة باسم "قناة الجزيرة" الدور الأكبر في هذه الحرب.
فعل ورد فعل معتاد ومعروف، حدث ذلك مع المملكة العربية السعودية عندما سحبت سفيرها من الدوحة عام 2002، وتكرر مع الجزائر والعراق والمغرب والبحرين والكويت واليمن ومصر وكل من أغلق مكتب الجزيرة في بلده.
إذن لا جديد تحت الشمس الدوحة، فسحب سفير أو إغلاق مكتب هو قرار إعلان حرب، وقطر وجيشها الإعلامي مستعدان، والأسلحة مصوبة تجاه الهدف عبر نشر تقارير وأخبار وفتح ملفات تنال من حكومة الدولة المستهدفة.
لكن اليوم ليس الأمس، فلقد كانت السياسية القطرية تطال حكومات معزولة، وتخاطب شعوبا غاضبة تترقب ما يبث عن سلطتها على شاشة "الرأي والرأي الأخر"! لكن العجيب أن الثورات العربية التي لعبت الجزيرة دورا في تأجيجها قللت من قوة هذه السياسة.
حيث دفعت الشعوب ثمنا باهظا لعدم الاستقرار، وانكشفت السياسة القطرية الداعمة لتيار بعينه بحجة أنه الأقوى في ساحة المعارضة، ثم أتى تحرك الغالبية الصامتة ليغير المعادلة السياسية، ولا يمكن الآن غض الطرف عن حول الشارع ضد تيار الإسلام السياسي، الذي فقد كثيرا من شعبيته.
فالتيار الإسلامي لا يمر بأزمة مرحلية يمكن تخطيها، كما حدث عقب أحداث سبتمبر 2001، عندما تخطاها تحت تأثير التجربة التركية والدعم القطري، الأزمة هذه المرة تتمثل في انكشاف بنيته الفكرية والإدارية، ورفضه هذه المرة نابع من الشعوب وليس من الحكومات أو من توجيه غربي.
فالدوحة لم تعد ذلك المناضل الذي يخاصم حكومات ديكتاتورية، وينحاز لشعوب وشارع يتطلع للتخلص من هذه الحكومات لينعم بالديمقراطية تحت حكم الإسلاميين، والشعوب لم تعد تميل لتغير حكامها بالطريق الذي سارت عليه دول الثورات العربية.
ويبقى المتغير الأخطر الذي يلعب عكس توجه الدوحة وسياستها، وهو تراجع تأثير الولايات المتحدة الأمريكية على دول الاعتدال والحلفاء العرب وعلى رأسهم السعودية والإمارات، فالمسافة تزداد بين هذه الدول وأمريكا، وسياسة واشنطن المبنية على توازن الضعف والقوة الذاتي للمنطقة قلصت الفعل الأمريكي بالمنطقة.
كل ذلك يسحب البساط من قوة التأثير القطري، ويضع الدوحة أمام التحدي الأكبر منذ انقلاب الشيخ حمد على أبيه عام 1995 وتأسيسه لـ"دولة الدفع" باتجاه الحراك السياسي العربي، الذي تم في كنف الوجود الأمريكي بقاعدتي العيديد والسيلية.
فتحالف الدول العربية الكبرى وقوة فعلها، والأزمة البنياوية في رؤية الإسلاميين، ودخول الأغلبية الصامتة للمعادلة السياسية، بالإضافة إلى خفوت أمريكا في المنطقة يحد من مساحة وطبيعة الدور القطري الذي أصاب بالأمس، ها هو يتحول لمجرد صراخ في فضاء إعلامي ويخيب اليوم.