أحيانا لا يسير الزمن مع السائرين من الساعات والأيام والشهور, عندما يتوقف عقل الإنسان عن الوعي واستيعاب أن عقارب الساعة لا زالت تدق وإن كانت لا تستطيع أن تنافس دقات قلب يرتعد خوفا من المستقبل, يتمنى العودة إلى الماضي ولو للحظات لترى العين فلذة كبدها الغائب ..
كانت تصلي العشاء في خشوع ودعت الله أن يعيد إليها الغائب لعل فرحة قلبها بلقائه تزيح عن جسدها آلام مرض خبيث ينهش به دون رحمه, حاولت أن تلملم ما تساقط من عيناها من دموعوقامت متماسكة لتكمل الرحلة, التي لن تنتهي إلا بالعودة .. حتى يعود الزمن.
استقبلت والده أحمد جمال اتصال هاتفي من رفيقتها في درب البحث عن فلذة الكبد تخبرها ان هناك صحفي يجمع معلومات عن المحبوسين لكي يصنع تقريرا عنهم, أمسكت بالكلمات ولم ترد أن تفلتهم, طلبت منها أن تدلها على وسيلة اتصال بهذا الشخص وذهبت تستلقي في سريرها تنتظر شمس يوم جديد لعلها تحمل معها أخبار تسرها ووسيلة تعيد إليها مفقودها..
في تمام الساعة السابعة والنصف صباحا, دق جرس الهاتف الملقى على سريري, متعجبا أمسكت به ويدور في بالي أسئلة عن هوية المتصل في ذلك الوقت الباكر من صباح اليوم, وقررت أن أستقبل المكالمة لعل هناك ما دفع المتصل لأن يتصل باكرا في هذا التوقيت ..
عبر الهاتف, كان يمر صوتها الخافت المرهق محاولا أن يتماسك قدر الإمكان لكي لا تظهر في هيئة المستعطف, عرفت نفسها في هدوء وأعتذرت عن الاتصال في هذا التوقيت وبدأت تروي لي قصة ابنها أحمد جمال فرج البالغ من العمر عشرين عاما ويدرس الهندسة بجامعة الزقازيق .. ابن العشرين ربيعا توجه صبيحة يوم الخامس والعشرين من يناير الماضي إلى القاهرة وتحديدا إلىمنطقة وسط المدينة ليشم نسيم أجازة نصف العام ويعود في نهاية اليوم إلى منزله في الشرقية فرحا بملابس جديدة غنم بها بأسعار جيدة بعد صولات وجولات في شوارع ومحال القاهرة ليرتديها في يوم 28 يناير أثناء حضوره لأخر أمتحان للفصل الدراسي الأول.
ولكن, لا تأتي الريح بما تشتهي السفن, بعد أجتياح رجال الأمن للشوارع في ذلك اليوم والذي تصادف أنه ذكرى ثورة قامت منذ ثلاث أعوام, بات أحمد ليلته في معسكر طره للأمن المركزي دون غطاء وتحولت الأجازه من الدوام الجامعي إلى حبس في سجن بأمر شخص رأى أن ذلك الشاب يهدد الأمن القومي بوجوده في الشارع وضاع أخر أمتحان, وأصبح الطالب مهددا بضياع مستقبله..
تسائلت والدة الطالب أحمد جمال عن سبب أستمرار حبس ابنها لأكثر من شهر بالرغم من عدم وجود ما يدينه ووأكدت لي على أنه لا ينتمي لأي حزب أو تيار سياسي, وأنه ألسنة لهب القبض العشوائي نالته مثلما نالت الكثيرين هذا اليوم.
وصوتها يملؤه الحزن, تحدثت عن التفاؤل الذي اجتاح صدرها بعد خطاب الرئيس المؤقت عدلي منصور والذي أعلن فيه إصداره توجيهات إلى النائب العام بإعادة النظر في قضايا الطلاب والإفراج الفوري عن من لم يتورط في أي جرائم عنف, واتنظرت عودة الغائب .. ولكنه لم يعد حتى الآن.
تحت رقم 291 إداري عابدين, كتب اسم أحمد جمال فرج وإلى جواره المئات ممن ألقت قوات الأمن القبض عليهم يوم السبت الموافق 25 يناير 2014, فيذكري يوم خرج فيه الآلاف رفضا للظلم والتعذيب, ولكن رياح العشوائية والظلم لم تدفع بأحمد فقط إلىالسجن, ولكن صاحبه الكثيرين ممن دفعهم حظهم العثر إلى التواجد فيشوارع وسط البلدذلك اليوم.
روي عن أحمد جمال, أنه أثناء سيره من العتبه في اتجاه محطة مترو جمال عبد الناصر بميدان الاسعاف, مر بشارع عدلي حيث ألقي القبض عليه من قبل مدنيين وأحتجز بجوار المعبد اليهودي الواقع بنفس الشارع حيث تعرض للضرب المبرح حتى كسرت أنفه ومن ثم تم ترحيله إلى قسم عابدين.
في الجانب الأخر من وسط المدينة, كان يصعد بسام محمد رجب 17 عاما وأخوه أحمد محمد رجب 20 عاما, عدة درجات ليخرجا من محطة مترو محمد نجيب متوجهين إلى مول البستان لشراء مستلزمات للكمبيوتر بأسعار رخيصة ليجدا أنفسهما بين أيادي لمدنيين تمسك بهما وتعتدي عليهما بالضرب وألسنتهم تسب وتلعن فيهما وتصفهم بالإرهابيين الساعين لخراب البلد.
بعد الإفراج عنه, روى لي بسام ما حدث له أثناء احتجازه 18 يوم بين قسم عابدين ومعسكر الأمن المركزي بطره وقسم الدرب الأحمر الذي قضى بين جدران زنزانته اخر أربع أيام قبل أن ينال حريته بقرار من نيابة عابدين بالإفراج عنه وأستمرار حبس أخيه.
بكلمات متبعثرة وصوت يختنق من الذكرى قال بسام " خدونا وودونا لمعسكر الأمن المركزي بطرة ... بعد ما اتعرضنا لانتهاكات لفظيه وجسديه كتير جدا .. عربية الترحيلات سعتها 35 فرد .. ده اللي أنا أعرفه .. كنا قاعدين فيها 65 واحد .. قعدونا في العربية قدام المعسكر أكتر من 4 ساعات .. كنا بنتخنق", أعادت كلماته لذهني مأساة مقتل 38 مسجونا خنقا داخل عربية ترحيلات, أغسطس الماضي, التي عرفت إعلاميا بـ"سيارة ترحيلات أبو زعبل".
وأستطرد قائلا أن النيابة حضرت للتحقيق معهم بعد يومين من إلقاء القبض عليهم ولم يسمح لهم بالتواصل مع محامي أو مع اولياء أمورهم, وأنه طلب من وكيل النيابة أثناء التحقيق أن يثبت ما بجسده من إصابات وكان رد وكيل النيابة " مش مهم مش مهم .." وتابع بسام حديثه قائلا "هو مكنش عايز يثبت أصلا ومفيش حاجة أثبتت في المحضر احنا اتعرضنالها .. كل الناس كده مشأحنا بس "...
وعن عشوائية القبض والإفراج, قالت منال منيب والدة أحمد وبسام أن محضر ضبط أبنيها الصادر عن الشرطة ومحضر النيابة خالية من أي أحراز تدينهما وبالرغم من القبض عليهما سويا فينفس المكان والتوقيت, صدر قرار إخلاء سبيل بسام دون كفالة بعد 19 يوم وأستمر حبس أحمد حتى صدر قرار النيابة بإخلاء سبيله مساء يوم الرابع العشرين من فبراير بكفالة تقدر بعشرة آلاف جنيه.
وتسائلت مستنكره كيف لمحدودي الدخل أن يدفعوا مثل هذا المبلغ!, وأين أحترام الدستور والقانون وحقوق الإنسان في كل الإجراءات التي أتخذت تجاه أبنيها منذ القبض عليهما وحتى الإفراج عنهما, مؤكدة أنهـا ليست الوحيدة التي أحترق قلبها بفراق فلذات اكبادها وأن ملف القضية يجمع العديد من الأخوة الذين ألقي القبض عليهم عشوائيا لمجرد تواجدهم في شوارع وسط البلد ذلكاليوم.
بين سطور محاضر الشرطة يقبع مظاليم وسط البلد وبجوار أسوار السجن يجلس ذويهم متمنيين أن يعود الزمن ويحتضنوا أولادهم, عسى أن يطفئ الحضن نار داخل الأم ويخفف ألم جرح لن يلتئم داخل كل زهرة قطفت من بستان الحياة لتلقى بين اربعة جدران.