فى المرحلة الثانوية دائما ما كانت أعراض التدين تصيب جانبا كبيرا من الطلبة، وأنا كنت منهم. تقنع نفسك فى البداية أنه من أجل «الله»، وبعد انتهاء هذه المرحلة تتأكد تماما أن سببه كان الخوف من الامتحانات لا أكثر. عادة ما يبدأ انجذابك السطحى للفئة التى تطلق على نفسها لفظ «متدين» فى المدرسة، وتحديدا من حصة «الدين» ومدرسها -غالبا يكون بلحية ومكشر 25 ساعة فى اليوم- حيث يتطرق إلى الحديث فى موضوعات عدة، ومعظمها يكون شيقا بالنسبة إليك.. موضوعات جديدة لم تكن تعرف عنها سوى القشور من قبل، وحصة الدين تكون الفرصة الوحيدة للدخول إلى هذ العالم الذى لا تعرفه.. لو راجعت نفسك الآن ستجد أنك كنت مهتما بالمعاملات الزوجية أكثر من أى شىء آخر.
تنتظم فى الصلاة فى مسجد المدرسة والمسجد المجاور لمنزلك.. تبطل تبص على البنات فى الشوارع، ولا تنتظرهن أمام سنتر الدروس الخصوصية، بعدما كنت حافظ مواعيدهم، وتقريبا عامل جدول علشان ماتتلخبطش. تبطل تسمع أغانى، بل وتتخلص من كل ما يمت لها بصلة، سواء كانت شرائط أو سىديهات أو بوسترات كانت معلقة على الحوائط، ويمتد الأمر للتخلص من المجلات «إياها» التى كنت قد بدأت فى جمعها مع بداية تالتة إعدادى.
ستجد نفسك بالتعود تحضر دروسا دينية فى أحد المساجد الذى يكون كل ضيوف الدروس فيه من أصدقائك فى المدرسة، وغالبا ما يكون مدرس حصة الدين واحد ممن يلقون الدروس فى هذه المساجد.. وهناك من يعينك على ذلك وسيكون أحد أقاربك «بالنسبة لى كان ابن خالى». شرائط خطب عادية فى البداية، تتدرج فى ما بعد إلى الشيخ كشك، وتنتهى للأسف بالشيخ محمد حسين يعقوب وأبو إسحاق الحوينى. فى المنزل ستجد نفسك قليل الحديث جدا، وتحاول بشتى الطرق أن توصل إلى إخوتك ووالديك أنك تغيرت وأصبحت ملتزما دينيا.. ويزداد تمسكك بالأمر كلما رفضوا أيا من أفعالك.. تنصح إخوتك كثيرا بعدم سماع الأغانى، ولا تكف عن إيقاظهم لصلاة الفجر «أحلى ما فى هذه الفترة».
كل ذلك سيحدث فى وقت قليل جدا لا يصل بأى حال إلى أكثر من شهرين، لتجد نفسك شخصا آخر بالفعل ظاهريا. لكن بعد انتهاء هذه الفترة، ستتفهم أيضا أنك كنت فارغا من الداخل، ولا شىء حقيقيا مما كنت تفعله.. فقط كل ما تغير قشور، أما المضمون والحقيقى والمفروض فكما هو. وهذه الفترة تحديدا يمكنك أن تطبق عليها مبدأ «اللى ييجى بسرعة يروح بسرعة».
تبدأ نفسك تدريجيا أيضا فى العودة إلى ما كنت عليه قبل البدء فى ما فعلت.. المشكلة أنك لن تقيّم هذه الفترة بجد وحكمة إلا بعد التخرج تقريبا، لتعرف أنك أخطأت، بالطبع ليس فى التدين، ولكن فى طريقته. عشت أياما حلوة بالفعل مليئة بالروحانيات إلى حد ما.. لكن الحقيقى أنك ذهبت للدين بدافع الخوف لا بدافع اليقين.. تفكر فتهتدى، هذا كل ما فى الأمر.
فى هذه الفترة سمعت أنا وأصدقائى أشياء مؤكدة عن شيوخ المنابر، فذات مرة وفى إحدى زيارات الرئيس الأسبق مبارك لمشروع توشكى، جاءت التعليمات لشيوخ الأوقاف بالنوبة وأئمة المساجد أن يتم تضمين خطبة الجمعة كلاما عن إنجازات الرئيس فى توشكى وأهمية المشروع لمصر -المشروع فشل تماما بعد ذلك- فاستغل أحد أئمة المساجد ذلك وأفرط فى الحديث عن الرئيس مبارك، حتى أصبحت الزيارة موضوع الخطبة، وبعد انتهائه من الشرح ختم بقوله: «اخترناك.. اخترناك.. علشان كده إحنا اخترناك»، فرد عليه أحد الجالسين «الله عليك يا شيخ لطيفة». وخطيب آخر أكد لنا أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يصعد على المنبر وهو «متوضى»! والشيخ محمد بتاع أرض اللواء، الذى ما زلت أذكر له أننا لم نوافق على سفره للمصيف معنا، فقضى الجمعة كلها تجريحا فى ما يحدث فى المصايف المصرية من عُرى وابتذال.. حتى اقتاده رجال أمن الدولة وتم حبسه أسبوعا، خرج منه ليحلق ذقنه تماما، وافتتح قهوة أجرّها لصبيه بعد ذلك، وبدأ يتاجر فى العقارات.