هكذا قلت لى أنت يا ولدى ذات ليلة مثلما قال «حسن» لأهل بلدنا، رغم الفارق الكبير بينك وبينه، وبينى وبين من كان يخاطبهم. لو تتذكر تحدثنا ليلتها، بينما نور شحيح ينام تحت أرجلنا، عن قضية الشريعة. أنت كنت تقول إن بلدنا يجافيها، والسلطة تحاربها، وأنا كنت أقول لك فى صراحة تامة: «أنا مع تطبيق الشريعة كما جاءت فى «القرآن الكريم» بشرط أن نقرأه دون اجتزاء، وكل ما لا يخالفه مما نُسب إلى الرسول الكريم من أقوال، وكل ما تواتر عنه من أفعال، لكننى ضد «شريعة الخلق» التى يطرحها بعض مشايخك ويزعمون أنها «شريعة الخالق»، فمنحوا بذلك أقوال وتخريجات البشر قداسة وقدموها دون أن يدروا على وحى السماء، واستعاروا ما أنتجه الأوائل عبر إعمال العقل فى مشكلات واقعهم على أنه «نقل»، شأنه شأن التنزيل».
أستعيد الآن هذا الكلام المصفوف المتماسك، الذى حفظته من كثرة ترديده، خلال سنوات غيابك المرير، فى وجه من يقيمون دعاوى قضائية ضد من وكلونى من أدباء وباحثين اتهمهم أمثالك، يا ولدى، بالتجديف فى الدين وازدرائه، ولأنى رددت عليهم وأفحمتهم، أرسلت إلىّ خطابك الأول والأخير، الذى تخرجنى فيه من الملة.
ذات يوم قلت لك هذا فى دفقة واحدة، كنت ألهث، وأنظر إليك، لأرى وقع كلامى عليك، ظننت فى البداية أن ما أقوله سيفرحك، ويبين لك أن المسافة بيننا أقصر مما تظن، لكنك يومها تبرمت وقلت: «مشايخى يقولون عكس ذلك، ويطلبون منا أن نتحرى الدليل الشرعى من القرآن والسنة»، فأجبتك فى ثقة: «هم سينكرون أنهم يوصون بهذا من الناحية النظرية، فإن اكتشف أحد فى أدلتهم غير ما نزل من عند ربنا، سيقولون: حاشَ لله. لكن من الناحية العملية لو قمت بدراسة خطابهم وخطبهم وفتاواهم وتخريجاتهم وآرائهم ستجد أنها تذهب إلى النص الأصلى عبر طبقات متراكمة من أقوال البشر وأفهامهم. وإذا أردت أن أقدم لك دليلًا، وأنا رجل القانون الضليع كما تعلم، على هذا سأذهب معك لأحضر درسًا أو اثنين، ومعى ورقة وقلم، لأسجل لك كل الملاحظات التى تبين صدق ما أقوله لك».
تابعتنى صامتًا، ثم نفخت وأبديت تبرمًا، ورحت تتقلب فى مكانك كأنك تقعد فوق الجمر، وعدت تقول: يكفيهم أنهم يسعون إلى أن يكون شرع الله حاكمًا بيننا.
قهقهت أنا يومها، وهزت ضحكاتى هالات النور فانسالت على الحوائط، وقلت لك: «الشريعة كما أفهمها لم تغب يوما عن الشعب المصرى، فهى مطبقة كاملة، ومتجسدة فى قانون الأحوال الشخصية، حيث أحكام الزواج والطلاق والميراث. أما بالنسبة إلى الحدود فهناك التعزير الذى استبدل بقطع يد السارق، وبجلد الزانى وشارب الخمر، السجنَ، وهذا من حق الحاكم، كما اتفق الفقهاء الأوائل، وحتى لو لم نُرد التعزير هذا، فإن الشروط الصارمة والقاسية التى وُضعت فى سبيل تطبيق الحد تكاد تقول لنا بوضوح إن الحدود للردع.
والقانون المصرى الحالى لا يكافئ السارق، ولا يحتفى بالسكير، ولا يبارك فعل الزانى، إنما يعاقبه.
ونظرت ساعتها من النافذة فرأيت بائعًا متجولًا، يحمل على ذراعيه «كرتونة» مملوءة بعلب المناديل الورقية الناعمة، ليكسب فى نهاية يوم عمل شاق بضعة جنيهات، وآخر يمد يده سائلًا الناس أن يعطوه مما أعطاهم الله، ورجلا ريفيا يمشى فى بطء قابضًا على يد ابنه الذى يعرج فى صبر. ملأ هؤلاء بصرى ورأسى فقلت لك:
- الشريعة حقوق قبل أن تكون حدودًا، لكن المتعجلين والجهلاء وتجار الدين، الذين تنبهر أنت بآراء بعضهم، يتلاعبون بعقول بسطاء الناس، ويصورون لهم الأمر على أن الدين فى خطر، وأنهم هم حراسه الأوفياء».
كنت متدفقا أيضا، بالدرجة نفسها التى قلت فيها كلامى السابق، وكنت أيضا أحفظ هذا عن ظهر قلب، وأكلمك مثلما أكلم القاضى. تخيلتك القاضى، فوضعتك فى منزلة فوقى، لكنك لم ترُق لأبيك الذى يتواضع أمامك حتى يستميلك.
وحكيت لك يومها قضايا عديدة قرأتها فى صفحة الحوادث عن ضبط سكارى فى الشوارع، وسجن لصوص، وشنق قتلة، وذكرتك بأننى لم أدافع يومًا عمن يستقر فى يقينى أنه مجرم، ولا أقبل إلا قضايا من أراهم للوهلة الأولى أبرياء. ولما وجدتك مصغيًا فى صبر عاجلتك بما وددت دوما أن أقوله لك: «الشرع يُبنى فى النفوس قبل النصوص، وفى الواقع المعيش وليس فى بطون الكتب التى يسترزق منها شيوخك».
وهنا تبخر صبرك وصرخت مستنكرا: «يسترزقون!!!» فقلت لك فى هدوء، وأنا أربت كتفك لعلك تهدأ: يا ولدى لا تملأ نفسك بالأحقاد على من حولك، فكل الناس فى بلادنا يمتثلون للشريعة عن طيب خاطر، من دون تشدق ولا مظاهر كاذبة وفارغة، ودون أن يجلسوا طول الوقت ليتحدثوا عن اعتزازهم بالشرع، لأنه ذائب فى نفوسهم وقلوبهم. لكن المشكلة فى من يثرثرون ليل نهار ويذرفون دموع التماسيح على «الشريعة الغائبة» و«المجتمع الجاهلى» و«الدولة المارقة» التى يجب أن يفتحوها من جديد، ليحطموا أصنامها وينشروا فيها الإسلام الذى يحملون توكيله، ويعرفون، وحدهم، أركانه، ويحملون بمفردهم مفاتيح الجنة التى وعد بها الله المؤمنين. إن هؤلاء يذكروننى بالحكمة التى تقول: «احذر المرأة التى تتحدث كثيرًا عن الشرف»، والآن أقول: «احذروا الذين يتحدثون عن تدينهم ويتباهون به، فالمتدين الحقيقى يذوب الدين فى سلوكه، ويلمسه الناس، ولا يكون فى حاجة إلى الإعلان عنه، والتشدق به» وهذا ما قلته لك مرارًا، لكنك كنت كل مرة تتابعنى بدم بارد، وعينين محايدتين، وأنت تلعب فى شعر ذقنك.
وضايقك هذا التشبيه فزفرت فى تبرم، ولولا بعض حياء أو هيبة منى لوجهت لَكمة قوية إلى وجهى وتركت الدم يلون بقع الضوء السارية التى تبرق فيها حروف كلامنا. لكننى وجدتها اللحظة المناسبة لأسكب كل الكلام المختزن فى صندوق أحزانى على رأسك وأنا أراك تشرد بعيدًا عما تمنيته لك، فاقتربت منك وواصلت: «يعلم أغلب شيوخك أنهم يكذبون، لكن يريدون أن يحصدوا أى مكاسب سياسية ومالية باسم الشرع، حتى لو على حساب الأخلاق التى بُعث الرسول ليتممها، أو على حساب حق الناس فى أن يكتفوا من الغذاء والكساء والدواء والإيواء والتعليم والترفيه وهو جوهر الشريعة وعينها، لكن هذا يتطلب أفعالا لا أقوالا، وهم مفلسون ليس لديهم سوى الكلام الفارغ، والبحث عن المناصب والكراسى والمغانم باسم الدين. يقرأ هؤلاء القرآن الكريم، ويفهمون أنه الأصل وأنه الوحى وأنه النص المؤسس للإسلام، ويعلمون أنه كتاب هداية فى المقام الأول وأن التشريعات التى وردت فيه لا تزيد على مئتى آية من بين ستة آلاف ومئتين وستٍّ وثلاثين آية تمثل المصحف الشريف كله، ويتلون «اليوم أكملت لكم دينكم» لكن يتناسونها ويكملون هم الدين زعمًا من عند أنفسهم، ويوهمون عوام الناس أن الدين مهجور، حتى يثيروا حميتهم الدينية فتحشدهم صفوفًا متزاحمة أمام صناديق الانتخابات تصوت لصالح تجار الدين».
كنت أتكلم بحماس شديد، حتى تفصد العرق من كل مسام جلدى، وراح يتقاطر فوق خيوط الضوء فيبللها، ويعارك دوائر اللهيب التى كانت تحوم حول غضبك، فيرطبها قليلا. وكنت تتحمل كلامًا ربما تسمعه للمرة الأولى منى، حتى وصلت بك إلى لب المشكلة وقلت: «التشريعات قد يبدلها أو يوقفها تغير الأحوال، وإلا ما أوقف سيدنا عمر حد السرقة فى عام الرمادة، وأوقف الفقهاء ملك اليمين، أما العقيدة فهى الثابتة، وآفة من تستمع إليهم أنهم جعلوا أغلب الأشياء فى باب الاعتقاد، ففتحوا نوافذ لا نهاية لها للتكفير».
نظرت إلى، ونفخت وصرخت، وسللت ذراعيك من جنبك ومددته أمامى وفردت كفك عن آخرها:
ـ كفى.. كفى.. كفى.
ورحت تركل الحائط بقدمك وتقول مثلما قال «حسن»:
ـ هذا فراق بينى وبينك.
أدركت وقتها أننى قد تركتك لهم ففعلوا بك الأفاعيل، وقمت لآخذك فى حضنى لأستعيد بك أيام ألفتك ووداعتك، لكنك نفرت، وجريت نحو باب الغرفة، وصفقته وراءك، وسمعت قرقعة قدميك على سلم العمارة. جريت وراءك لكن لم ألحق بك، خاننى عظمى فوقعت على البسطة المربعة فى الدور الثالث، إلا أن صوتى وصل إليك:
- ألم ينته الوحى بعد محمد؟
وجاءنى صوتك زاعفًا:
- بلى.
ـ هل معك أو مع أحد من شيوخك توكيل من السماء؟
وجاء صوتك واهنًا:
- لا.
فقمت، وفردت جسدى، وأمسكت السور بكلتا يدىَّ، وصرخت بكل ما أوتيت من قوة:
- إذن، فليكمل العقل المسيرة مع الوحى.
لم أسمع لك ردًّا، فواصلت:
ـ عد إلىَّ يا ولدى.
لكن صوتى ضاع، وضاع صوتك أيضا، فلم أعد أسمعه، حتى قرقعة قدميك تلاشت فى صفير الريح بمدخل البناية العتيقة. وفى اليوم الثانى كنت أنا فى طريقى إلى مستشفى قريب، لأجبر كاحلى المشروخ، بينما كنت أنت فى طريقك إلى الجبال البعيدة، التى تسلقها «حسن» قبلك بسنين طويلة، وتركت لى وقتا كافيا لأستعيد هذا الحوار، وأضيف إليه من قريحتى، وكأننى أحاول أن أقنعك عن بعد بما لا تقتنع به وأنت أمامى، عيناك فى عينى، وفمى فى أذنك.
العتبة الثالثة عشرة
اترك خلف ظهرك، يا ولدى، ستة بيوت، متفاوتة فى العرض والارتفاع، ستجد البيت الذى تسمع فيه ما تصفه دومًا بأنه عزيف الشيطان. كنت تأتى من غرفتك غاضبا، وتطلب منى أن أخفص صوت التسجيل المترنم بربابة الشاعر وهو يشدو بالسيرة الهلالية فى الأفراح والليالى الملاح، ولم تكن تدرى وقتها أن الذى جعلنى أهيم بالرباب هو صاحب هذا البيت البسيط.
كنت آتيه أيام وجعى فيجر الرباب ويسكب فى أذنى موسيقى حزينة. ولأن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فقد كان أسى العزيف يخالط مرارتى، فيسوقنى إلى الراحة. وكانت راحتى تزداد حين يغنى لى مواويل من تأليف جدى، ثم يهمس فى أذنى مبتسما:
ـ أوجعته «روزالين» فأبدع.
لن تجد «صفوان» صاحب البيت، فى الداخل، فهذه هى الساعة التى يجلس فيها على صهوة جرف يعتلى النهر، عيناه ذاهبتان إلى الشمس المجروحة تحت الغيم والشفق، ويداه على ربابة مستندة إلى كتفه اليسرى، يحركها فتندلع الموسيقى، تحوم حوله، ثم تتهادى إلى الماء، وتسبح إلى الجزيرة النائمة فى قلب النهر، فترقص العصافير.
حين يفرش الليل أبسطة الظلام على المياه، ينهض، ويفتح أنفه على قدر استطاعته، ويسحب من الهواء النقى، من دون أن يهز رأسه حتى لا تسقط الموسيقى من أذنيه. يفرش السجادة البالية التى يضعها فى جراب الربابة على النجيل الأخضر ويصلى المغرب، ثم يعود على مهل.
لو بقينا هنا يا ولدى ساعة على الأكثر فقد تراه. وحين تحط عينيك على وجهه الهادئ سيزول عنك غضب منه، وستوقن أن الأصوات الجميلة التى تصدرها الآلة الراقدة تحت إبطه، تحرسها الملائكة وليست الشياطين. فقط عليك أن تنصت إلى مشاعرك، وتستجيب لأوتار قلبك، وتغمض عينيك وأنت تتابع شدو الرباب.
ويمكننا يا ولدى أن نفتح أمام صفوان باب الحوار الذى دار بيننا فى تلك الليلة البعيدة. هل لا يزال رأسك يحمل ما قلته لك؟ لم أشأ وقتها أن أزيد من غضبك، وأغلقت «الكاسيت» دون أن تفارق الابتسامة شفتىَّ، ونظرت إليك طويلًا، وسألتك:
ـ على أى أساس تُحرِّم الموسيقى؟
ـ المعازف صوت الشيطان، ومن يسمعها سيُصب الآنك فى أذنيه يوم القيامة.
ـ من أين أتيت بهذا الكلام؟
ـ نقله شيخنا من كتاب «المغنى» لـ«ابن قدامة المقدسى».
ـ وهل ابن قدامة إله؟
- لا.
ـ نبى؟
ـ لا.
ـ معه توكيل من السماء؟
ـ لا.
يومها قهقهت حتى ارتجت اللوحات المعلقة على جدران الغرفة، ولما رأيت الغيظ ينمو فى عينيك، أرسلت إليهما ابتسامتى فمسحت بعض الاحمرار الناشب فى جنباتهما. اقتربت منك مطمئنا، لأننى أبوك، وأردت أن آخذك فى حضنى لكنك نفرت منى، وقلت:
ـ أتهزأ من كلام العلماء؟
فابتسمت وسألتك:
ـ هل تعرف أن الفقيه الكبير «أبو نصر الفارابى» هو مخترع آلة القانون؟
ووسط الدهشة التى غطت ملامحك، عاجلتك بسؤال آخر:
ـ ألم يذكر أمامك أى من شيوخك أن «أبو حامد الغزالى»، الذى يصفونه بأنه «حجة الإسلام» قد قال: «ﻤن ﻟم يحرﻛﻪ اﻟرﺒﻴﻊ وأزﻫﺎرﻩ، واﻟﻌود وأوﺘﺎرﻩ، ﻓﻬو ﻓﺎﺴد اﻟﻤزاج ﻟﻴس ﻟﻪ ﻋﻼج»؟! أم أنهم ينتقون ما يفسدون به عقولكم؟
فهززت رأسك نافيا أن تكون قد سمعت هذا الكلام من قبل. وطلبت مهلة لتعود إلى الشيوخ، فأخذتك من يدك، ودخلت غرفة مكتبى الصغيرة، وطلبت منك أن تمد يدك إلى كتاب ذى جلد أخضر سميك، فأتيت به، وقلت لك:
ـ هذا «إحياء علوم الدين» ستجد فيه ما قلته لك. قلِّبه على مهل، وفتش فى غيره من هذه الكتب، لتجد ما يخفيه عنك شيوخك، وقد تكتشف أنهم مجرد ناقلين لهذا الكلام الراقد فى بطون الورق القديم، يرددونه كالببغاوات، وعندها قد تعيد النظر فى كل شىء.
لكنك لم تفعل، وتفوهت بجملتك المعهودة «من لا شيخ له فالشيطان شيخه»، ولا أعرف من أين أتيت بهذا الكلام، الذى اخترعوه ليصيروا أوصياء على عقول الناس. ولم تكلف نفسك أن تكون مثل «صفوان» الذى جاءنى ذات ليلة فى الزمن القديم، وأنا طالب فى الجامعة. كان مخطوفا، زائغ البصر، شفتاه مقددتان من فرط الأسى. جلس إلى جانبى صامتا، ثم فجأة وخزنى بسؤاله:
ـ هل عزف الرباب حرام؟
فرفعت رأسى مندهشا:
ـ من قال هذا الكلام الفارغ؟
ـ الشيخ «حسن».
قهقهت، وضربت كفًّا على كف.
ـ «حسن» البصباص أصبح شيخًا.
ـ أمسك الربابة بيده، وكاد يكسرها، وهو يقول: تغيير المنكر فرض.