فى عام 1987 دخلت إحدى السيدات مقر حزب العمل بالإسكندرية، وكنت وقتها أعمل بجريدة «الشعب» لسان حال حزب العمل الاشتراكى، وقدمت نفسها على أنها موظفة بالقنصلية الأمريكية، وطلبت مقابلة قيادات الحزب. وأشارت إلى أن السفارة الأمريكية مهتمة بمتابعة انتخابات مجلس الشعب والتحالف القائم بين حزب العمل وجماعة الإخوان. وأتذكر أن الأمر امتد إلى وجود القنصل الأمريكية نفسها بعد ذلك، وحضورها لقاء قيادات كل الأحزاب والتيارات السياسية، وزاد اهتمام أمريكا بالإسكندرية، التى كانت تعيش أزهى فترات المعارضة بما تضمه من أقطاب وتيارات سياسية عديدة. كما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بفتح قنصلية ضخمة بالمحافظة ضمت لأول مرة ثلاثة قناصل.. قنصل عام وقنصل ثان وقنصل خاص بالتأشيرات، حيث كانت القنصلية الأمريكية بالثغر تقوم بمنح التأشيرات للمواطنين هناك، ثم تطور الأمر بافتتاح مركز ثقافى أمريكى يضم أيضا مديرا للمركز بدرجة قنصل. وكانت حفلات القنصلية تضم أعدادا غفيرة من الشخصيات العامة وأساتذة الجامعة وصفوة المجتمع السكندرى، وأظن أن أمريكا قامت بانفتاح كبير على المجتمع السكندرى، وأقامت شبكة علاقة واسعة وحرصت على توطيد اتصالاتها بالأدباء والإعلاميين والمثقفين.
ومع ذلك ظلت هناك فجوة حقيقية بين المجتمع السكندرى والأمريكى.. خيط رفيع أبعدَ الشعب السكندرى مثلما أبعدَ المواطن المصرى عن كل ما يتعلق بأمريكا.. شعور بأن هؤلاء الأمريكان لا يعملون لصالح مصر، وأن هدفهم ضرب الأوطان وتخريب البلاد وتجويع الشعب. وأذكر أننى قابلت مديرة المركز الثقافى الأمريكى عام 2009 فى مكتب زميلنا محمد الكيلانى نقيب الصحفيين وقتها، ودار حوار سريع بيننا حول أسباب هجومى عليهم، فذكرت أننى أشعر بأن الحوار الدائر بين أمريكا وحكومة دكتور نظيف هو حوار الطرشان لا فائدة منه، ما دام المواطن البسيط لا يشعر بأن العائد لصالحه.. وأعطيت لها مثالا لو أن المسؤولين بأمريكا مثلا اهتموا بناد مثل نادى الاتحاد السكندرى يمثل 6 ملايين مواطن، يشجعونه ويحبونه، وقاموا برعاية فريق السلة ونجحوا فى تطوير أدائه والارتقاء بمستواه، وقتها سيشعر أبناء الثغر أن الأمريكان أسهموا فى تحقيق نجاح لشىء يعشقونه، وذلك من خلال إقامة معسكر للفريق بأمريكا، أو إحضار خبير لتدريب الفريق، وهذا سهل بالنسبة للأمريكان على أساس أنهم أبطال العالم فى اللعبة. ورغم أن الفكرة كانت رائعة لدرجة أن مديرة المركز أبدت إعجابها الشديد بها، فإننى كنت على يقين أنها لن تنفذ، لأن السياسة الأمريكية لا تريد النجاح للمصريين، ولا المساعدة لهم. وإذا نظرنا إلى كل ما يقدم لنا سنجد أنه عبارة عن معونات تسرق، أو أدوات ومعدات فات وقتها وأصبحت ذات تكنولوجيا متأخرة.
إنها أمريكا التى أرادت الضحك على الشعوب فسخرت منها الجماهير.. خدعوا البسطاء بالحياة الرغدة، فوفروا لهم سبل الفقر.. أعطوا لهم الأمل فى المستقبل فسدوا الطريق نحو أى شعاع نور. دخلوا الإسكندرية من أوسع أبوابها، وفتحوا قنصلية فى أكبر شوارعها، ومركزا ثقافيا ضخما، وبيتا فخما للضيافة، وانتهى بهم الحال بإغلاق القنصلية وتقليص دور المركز الثقافى ورحيل معظم موظفيه.
وأذكر أن أحد أسباب انقلاب أمريكا أوباما على نظم مبارك، ليس لأنه ديكتاتور أو فاسد، كل ذلك مجرد مبررات انقلاب، لكن الحقيقة لأنه لم يقم بمعاونتهم فى اختراق الشعب المصرى، فكان استبدال نظام به، يستطيع اللعب على المشاعر وإيهام الشعب أن هناك صديقا يعادله اسمه أمريكا، صديقًا يقف معنا ويساندنا.
مشكلة أمريكا أنها تريد أن تجعل الشعوب تعيش فى أوهام وأحلام.. تريد صناعة البطل الخارق بسيناريوهات تنتهى بانتهاء عرض الفيلم، لكن دائما أفلامها تفشل وربما تخسر أيضا، واليوم خسرت الرهان وفقدت الحلفاء. ويخطئ إذا ظن البعض أن خريف أمريكا بدأ فى مصر، لأنه دخل المنطقة العربية كلها التى أدركت أنها عدوها الأول، وقد أرادت أن تأتى بنظام يسهل اختراق شعوبها ودخول قلوبهم، ونسيت أن العقول تكشف الحقائق قبل القلوب.
إنه خريف أمريكا فى مصر أو غروب شمس العم سام. أمريكا أصبحت ضيفا غير مرغوب فيه لدى الشعب، قالها السكندريون ومن قبلهم كل من تصدى لسياسات الانفتاح والرفض للتعامل مع هؤلاء الذين يريدون بيع الأوطان.