ما الذى يدفع قياديا سلفيا بارزا إلى أن يتطوّع هذه الأيام ليُعلن أن ولاية غير المسلم على الهيئات والمؤسسات، مثل البرلمان وبعض المؤسسات بالدولة، أمر غير جائز شرعا وفقها؟!
وتأتى أهمية الكلام من الوضع الخاص الذى يحظى به المتحدّث وسط التيار السلفى، خصوصا لنفوذه غير العادى على حزب النور الذى هو فى العُرف البائد ذراع سياسية بالنسبة إليهم!
هل يُمكن أن يمرّ هذا الكلام كالنسيم العليل برغم ما فيه من تعارُض صارخ مع الدستور بعد تعديلاته الأخيرة التى تنصّ صراحةً على تأصيل ودعم مبدأ المساواة بين المواطنين، وعلى التزام الدولة بالقضاء على كل أشكال التمييز، بما فيها التمييز على أساس الدين؟ ولا يخفى أن هذا الكلام موجَّه فى الأساس ضد المواطنين المسيحيين الذين يضمن لهم الدستور المساواة مع مواطنيهم المسلمين، ثم إن حزب النور الذى هو الواجهة الرسمية لهذا القيادى شارك توًّا فى لجنة الخمسين التى أنجزت هذه التعديلات، بل لقد كان موقفهم المعلن، هو والحزب، أنهم دافعوا عن الدستور بعد هذه التعديلات، وأنهم روَّجوا له وسط كوادرهم، وأنهم دعوا جماهيرهم إلى الموافقة عليه فى الاستفتاء.
ألا يَرى فى كلامه هذا تناقضا واضحا يتعارَض مع ادّعاءاتهم وينتهك الدستور؟ أم إنه لا يعتدّ بأن الدستور هو المرجعية الحاكمة، وأن مشاركته فى صنعه كانت مجاراة لأغراض أخرى؟
وما لم يُفهم منه قوله إن مَن يثيرون هذا الأمر يريدون إشعال فتنة فى البلاد! رغم أنه هو الذى أثار الموضوع، وجاء قوله بمبادرة منه دون غصب! أم تُراه يقصد أن مَن يشعل الفتنة هو مَن يختلف مع قوله؟
المعروف أن هذه هى الأفكار الحقيقية لحزب النور، وقد سجّلها صراحة فى لجنة الخمسين، وسعى بكل الجهد إلى إقرارها، ولم ينخدع أحد بالمرونة التى أبدوها فى المناقشات وعند التصويت على الصياغة النهائية التى لم تعتمد أفكارهم، ولكن كان التفسير الراجح لدى قطاعات كبيرة من الرأى العام أن حزب النور بدأ يتعلم من السياسة أنه لا يجوز أن تُصرّ على كل طلباتك دفعة واحدة، وأنه ينبغى التمهّل وترتيب الأولويات، خصوصا فى ما يتعلق بالطلبات الحدّية التى تُواجَه برفض عام، وكان الظن أن حزب النور أرجأ التمسك بتطبيق بعض أفكاره إلى وقت ما فى المستقبل، بافتراض أنها قابلة يوما للتطبيق فى مصر، والسؤال الآن: ما الذى جدّ خلال هذه الأسابيع القليلة منذ الموافقة على الدستور، وبرّر لإفتاء حزب النور الآن أن يطرح أفكاره الخلافية مع الاتجاه العام الذى يفزعه تطرف رموز التيار السلفى ضد الآخرين، ليس فقط ضد المسيحيين وإنما ضد الشيعة والبهائيين والمتصوّفين.. وغيرهم؟!
يبدو أن أخطاء الحساب هى التى ورّطت القطب السلفى وزيّنت له أن يقول ما قال، ظنا منه أن ظروف الانتخابات الرئاسية والبرلمانية مناسبة مواتية لابتزار المرشحين بوضعهم فى مواجهة مع قطاع من بسطاء الناس ينساقون وراء حزب النور وينجذبون إلى خطابه، وربما يرى أن المرشحين إما أن يتغاضوا عن كلامه، فيكسب أن المسألة قد طُرحت ولم يعترض عليها أحد، أو أن يكون المكسب مضاعفا إذا استسلم بعض المرشحين ونادوا بما ينادى به! وبالمناسبة، ما رأى السيسى وصباحى فى هذا الكلام؟
وربما يكون ما يراه من أن انشغال الدولة فى مكافحة الإرهاب قد يضعها فى وضع حرج إن هى تصدّت لمثل كلامه الذى يبدو فى ظاهره نصرة للإسلام، والذى من المتوقع أن يجد هوى لدى جمهور السلفيين!
وربما يكون الأهم من كل ذلك أن يُنظر لهذا الكلام فى ضوء خطورة وقعه على النفوس فى هذه اللحظة التاريخية شديدة التعقيد، فهل يدخل كلام القطب السلفى فى باب حرية التعبير التى يحميها الدستور والقانون؟ أم هو ضمن الدعوات الهدّامة التى تُفجِّر الفتن وتُرسِّخ خطاب الكراهية فى تعارض سافر مع مبادئ دستورية أساسية، وفى تناقض مع اتفاقيات دولية صارت مُلزمة، وبات الخروج عليها محفوفا بمخاطر متعدّدة تذهب آثارُها فى أبعاد شتى؟
كما يكشف هذا الكلام مناورة بسيطة كان غريبا أن يُظَن أنها من الممكن أن تخدع الناس، وهى أن الدستور أصبح يفرض على حزب النور أن يوفِّق أوضاعه ليتسق مع النص الصريح الذى يُقرّر أنه لا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى، ولكن حزب النور، وبدلا من أن يقوم بذلك، إذا به يتماهى أكثر مع جمعيات دينية وينصاع إلى توجّهاتها!
إن هذا الكلام من القيادى السلفى يستهين بالنتيجة الكاسحة فى الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية والتى حدّدت اختيار الشعب لنظامه السياسى، بنسبة تقترب من إجماع المشاركين فى الإدلاء بأصواتهم، فكيف يأتى الآن من يهدّ هذه الحقيقة ويسعى إلى تطبيق أفكاره مهما أضفى عليها من قدسية وأحالها إلى مصادر من الفقه والفتوى؟!