أبادر إلى القول إن الثقافة ليست ترفاً، كما أن أنشطتها وتعبيراتها العديدة ليست شيئاً نُمضى به الوقت، وإنما الثقافة غذاء للروح والعقل معاً، فقد خلقنا الله من روح ومن جسد، وفى تقديرى أن فنون الثقافة المتعددة تخاطب الجانبين الروحى والعقلى فى بناء الإنسان المركب سعياً إلى الارتقاء بتلك النفس والسمو بها إلى آفاق أرحب وأوسع، الأمر الذى ينتج فى النهاية إنساناً مرهف الحس والمشاعر قادراً على أن يحلق إلى آفاق أرحب، وإلى حياة غنية بالأحاسيس والمشاعر.
وإذا كان هذا هو شأن الثقافة بفنونها وآدابها، ففى تقديرى أن الاهتمام بها والارتقاء بها وتطويرها والانتقال بها عبر الحدود إلى دول أخرى وشعوب أخرى، من شأنه أن يقدم ثقافة شعب من الشعوب إلى الشعوب الأخرى ويعرف بها، وبالتالى يكون التأثير الثقافى والحضارى لثقافة من الثقافات تجاه الشعوب الأخرى.
ولعلنا نسترجع التاريخ لنتذكر أن نشر اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وإلى حد ما اللغة البرتغالية فى القارة الأفريقية تواكب مع الحملات الاستعمارية التى قامت بها تلك الدول، بريطانيا وفرنسا والبرتغال، وإلى حد ما ألمانيا وإيطاليا فى أفريقيا، فقد استعمرت تلك الدول القارة الأفريقية فقامت بنشر لغتها وثقافتها وحضارتها حتى صار لكل قطاع من القارة مسمى يعبر عن التأثير الثقافى لتلك الدول عليها فسُميت دول الأنجلوفون ودول الفرانكفون ودول الليزوفون، وكلها مسميات تعبر عن التأثير الثقافى الاستعمارى للدول الاستعمارية الذى مارسته على دول القارة الأفريقية.
أضيف أنه حتى مع زوال الاستعمار التقليدى عن القارة الأفريقية بحصول تلك الدول على استقلالها، فقد بقيت اللغات الأوروبية وثقافات تلك الدول قائمة فى الدول الأفريقية، واستمر التأثير الثقافى الغربى على تلك الدول قائماً حتى اليوم ممثلاً فى لغاتها وثقافاتها رغم المحاولات هنا وهناك لإحياء لغات القبائل المحلية واستخدامها فى الاتصال اليومى إلا أن مناهج التعليم والثقافة بقيت فرنسية أو إنجليزية أو برتغالية... إلخ من اللغات الغربية، ولعلى أستحضر إشعار ليوبولد سنجور شاعر السنغال الكبير ورئيسها الأسبق وما كتبه من أشعار باللغة الفرنسية.
أقول بقى التأثير الثقافى واللغوى والأدبى الغربى على دول وشعوب القارة الأفريقية، والأمر امتد بطبيعة الحال إلى العالم الجديد فى قارات أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا بعد الفتوحات الجغرافية واكتشاف العالم الجديد، حيث سادت اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية فى الولايات المتحدة، فيما سادت اللغة الفرنسية فى كندا، وتأثرت دول أمريكا الجنوبية باللغتين الإسبانية والبرتغالية، حيث حمل المكتشفون الجدد معهم لغتهم وثقافتهم وحضارتهم إلى العالم الجديد، وبقى هذا التأثير حتى يومنا هذا.
وفى إطار هذا العرض التاريخى لم تكن المنطقة العربية، ومنها مصر بطبيعة الحال، دولاً استعمارية أو دولاً ساهمت فى الفتوحات والاكتشافات الجغرافية فى أفريقيا أو دول العالم الجديد، أمريكا بشمالها وجنوبها وأستراليا، بل كانت المنطقة العربية، ومنها مصر، عرضة لحملات استعمارية متكررة كان آخرها الاحتلال الإنجليزى لمصر، والذى دام أكثر من سبعين عاماً، ومن قبله الحملة الفرنسية على مصر التى لم تدم سوى عدة سنوات قليلة.
سنكمل فى المقال المقبل.