الزحام عدو السعادة، والمدن المزدحمة لا تمنح الإنسان سوى القلق والغثيان وحموضة المعدة.. وقد فهم الحكماء أن هناك حيزاً يحتاجه الإنسان ومساحة من البراح لا غنى عنها ليستطيع الفرد فيها أن يمارس إنسانيته دون تطفل من الرؤوس التى تطل عليه طوال الوقت.
وافتقاد هذه المساحة التى تتيح الخصوصية هو أحد الأسباب الأساسية لتعاسة البشر فى كل زمان ومكان. وربما كانت الحياة فى الريف، حيث الحقول والخضرة الممتدة، جالبة للسكينة لمن افترسته حياة المدن وعصف الضجيج بأعصابه، كذلك الاستقرار بالأماكن الساحلية المطلة على البحر يمنح الخيال فرصة للانطلاق بلا حدود، لكن مع ذلك لا الريف ولا البحر فى بلادنا كافيان ليمنحا شخصاً الحق فى أن يجلس وحيداً إذا شاء دون أن ينقض عليه قريب أو زميل من أجل الدردشة دون مناسبة عن أدق تفاصيل حياته التى اطلع عليها عن طريق الأهل والجيران والأصحاب!
وفى الحقيقة ليس أصعب على الإنسان من مواجهة أنفاس الآخرين طوال يومه فى الشوارع المزدحمة والمكاتب الضيقة والباصات الخانقة، وما أتعس من يعجز عن الحديث إلى صديق أو زميل دون أن يضطر إلى الهمس حتى لا يسمع الجميع حديثه.
وفى هذا الشأن يمكن النظر إلى حياة أولئك الذين يعيشون فى الأماكن العشوائية ذات المساكن المتلاصقة التى تفصل بينها وبين بعضها سنتيمترات على أنها الجحيم بعينه، خاصة أنه فى بعض الأحيان تكون ستارة من قماش هى ما يصنع الحدود بين مساحة الواحد منهم ومساحة جاره!. ومن الطبيعى أن حقاً أساسياً تنص عليه الدساتير جميعاً يكون معطلاً فى ظروف كهذه، وهو الحق فى الخصوصية.. وأى خصوصية يمكن أن تتوفر عندما يخدم حمام واحد عشرات العائلات؟!
وليس الحيز المطلوب للسلامة النفسية هو الحيز المادى فقط، لكن يحتاج الإنسان أيضاً حتى فى الأماكن المتسعة إلى قدر معقول من الخصوصية. صحيح أن الإنسان حيوان اجتماعى لا يستطيع أن يسعد دون وجود الناس فى حياته، لكن هذا الوجود لا ينبغى أن يصل إلى درجة الاقتحام التى تضيق الخناق على الناس وتحرمهم السعادة..
وقد شاهدت بنفسى فى بعض عواصم الغرب مقاهى ومنتديات مفتوحة لتشجيع الناس على التعارف وتكوين الصداقات فى مجتمعات ابتعد فيها الناس عن بعض، سعياً للحفاظ على المسافة الإنسانية المفترضة.
وربما أن هذا ما يؤدى إلى أن بعضهم عندما يزور بلادنا التعيسة ينبهر، ويحسد الناس على الحميمية والقرب الذى يصل بينهم أحياناً إلى درجة أن يركب خمسة أفراد على موتوسيكل، بينما لا يستطيع الواحد فى بلادهم أن يلمس جاره مهما كان المترو مزدحماً.. ولكن ربما يكف هؤلاء عن حسدنا بعد أن نصدر القانون الذى يحدد راكباً واحداً للموتوسيكل الواحد!