الكاتب: يوسف الدينى
نهاية الإسلام السياسى فى مصر، ممثلا فى الجماعة الأسوأ تمثيلا له وأداء «الإخوان»، ليست نهاية القصّة؛ وإن كان رحيلهم انعطافة مهمة فى المشهد السياسى العربى وليس المصرى فحسب، الأزمة فى مصر قبل أن تكون أزمة سياسية هى أزمة «وعى»، أزمة مكونات مجتمعية مترهلة جدا، صحيح أن «الشعبوية» السياسية والثقافية حالة سائدة فى كل المجتمعات وطبيعية. لكنها ظلت، وهذا مكانها الطبيعى، مكونا صغيرا غير مؤثر.
من يتابع الإعلام المصرى فى حديثه عن كل الأحداث التى أعقبت السقوط، يخرج بنتيجة مفادها أن الإعلام هو اللاعب الرئيس فى بلد يحظى بإعلام جماهيرى متابع بشكل مذهل، إلا أن الحالة باتت مقلوبة، تعيدنا إلى حالة الإعلام الموجه فى الحقب والتجارب اليسارية، نظرية الهرم المقلوب؛ «الشعب» هو مصدر التلقى والإعلام مجرد ناقل أمين لهواجس الشارع، وليس أداة تنوير وضخ للوعى الذى يحتاجه الشارع فى هذه المراحل الحرجة.
بالطبع نحن الآن فى مرحلة دفع فاتورة «الربيع العربى» التى بدأت هذا العام فى عدة مناطق، لكننا لم نتخيل هذا المد الشعبوى الطاغى الذى يجعل مؤسسات الدولة تسايره فى منطقه ولغته وتناقضاته، وتحاول أن تتقدم عليه بخطوة فى سباقه نحو تسطيح كل شىء، السياسة والاقتصاد والاكتشافات العلمية والحياة العامة.
دائما التحديات أمام الدولة والنخب والأحزاب السياسية لإبقائها فى حدود حجمها الطبيعى.
ما يحدث الآن فى مصر الدولة، هو جرس إنذار صاخب لضرورة الحفاظ على مفهوم الدولة ومؤسساتها، بعيدا عن الاستقطاب السياسى أو النزول للشارع، الحكومات تذهب وتجىء والنخب والمكونات السياسية تتأرجح صعودا وهبوطا، لكن أن تتأثر هيبة الدولة ومؤسساتها وتسقط فى شراك «الشعبوية»، يعنى دخولنا فى مرحلة حرجة لا علاقة لها بمؤامرات الخارج أو استهداف البلد، أو حتى ما يريده الخصوم والمعارضة.
ما زالت الفرصة مواتية؛ فهذا التفويض المفتوح من شرائح عريضة من الشعب المصرى للجيش، ودخول ترشح المشير السيسى على الخط كضامن لبقاء هذا الثقل السياسى، يعنى أن المزاج العام المصرى يريد عودة الدولة، لكن هذا المد الجماهيرى دون رؤية واضحة وصيغة توافقية مع النخب السياسية، التى وإن كانت لا تشكل ثقلا فى الشارع، لكنها وحدها القادرة على منح المشروعية السياسية، كما تمنح الجماهير الشرعية فى الوقت ذاته، وبالتالى لا يمكن الخروج من الفراغ بين السلطة والجماهير الشاغر بغياب النخب أو تململها وترددها من عودة الدولة البوليسية/ الأمنية، لا سيما وأن هذه المخاوف يعززها عدم وجود مؤشرات على أى انفراجة اقتصادية قادمة رغم الاستقرار النسبى والدعم.
الأزمة فى مصر الآن ليست الإخوان، ولا تردى الحالة الاقتصادية، ولا تعقيدات المرحلة الانتقالية، التى حولت المشهد إلى حقل ألغام لأى حكومة مقبلة، وهذا قد يفسر حالة التردد فى الترشح التى نشهدها، الأزمة هى أزمة «معنى» وطغيان الفكر الشعبوى، الذى يجعلنا - كعرب مفتونين بأم الدنيا - نبكى طويلا على مصر التنوير فى مقابل مصر الجماهير.
نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية