أمس كتبت عما اعتبرته نكتة سخيفة أشاعها فى السوق السياسية العشوائية المنصوبة حاليا حفنة من «الثورجية» و«الليبرالجية» الجدد، «أقصد أنهم مدعون ومحدثون»، عندما راحوا يستخدمون ويرددون بببغاوية مضحكة تعبير «الإسلاموفوبيا» الغربى المنشَأ والانطباق، كسلاح عبيط توهموا أنه ساحق ماحق وسهل كذلك، ويصلح لإرهاب وإسكات كل من يخالفهم الرأى بشأن الموقف من تأييد مرشح رئاسى معين، أعلن بصدق وصراحة ومن دون أن يخدع أحدا أنه ما زال مقتنعا ومؤمنا بالمشروع السياسى «الإخوانى» على رغم خروجه «أو بالأحرى إخراجه» من تنظيم الجماعة، بسبب خلافات وصراعات ذات طابع حزبى وتنظيمى بحت، وليست فكرية أو عقائدية كما أكد الرجل نفسه فى ألف مناسبة.
وكالعادة، ما إن نشر المقال حتى انطلقت قطعان العصابات المنظمة التى تنسب نفسها للإسلام زورا وبهتانا، تلك التى لا يفوق جهلها إلا سفالتها وبذاءتها وقلة أدبها «فضلا عن الجبن، إذ لا تكاد تجد سافلا واحدا من أعضائها ينطق بهويته واسمه الحقيقيين»، انطلق هؤلاء يعلقون باللغة الوحيدة التى يعرفونها، أى السب والشتم بأقذع وأحط الألفاظ، وأكثرها فحشا، وأشدها دلالة على نوعهم ومستواهم الأخلاقى والعقلى.
ولأن العبد لله روض نفسه من زمن طويل على إهمال كل هذه السخائم والاكتفاء بالضحك منها والرثاء لحال أصحابها، ومن يستأجرونهم ويسرحونهم فى الفضاء الإلكترونى، فقد كان بعيدا عن نيتى تماما أن أعود للكتابة فى الموضوع، لكن تعليقا واحدا قرأته من بين سيل التعليقات الجهولة الواطية استوقفنى وأثار اهتمامى، إذ وجدت صاحبه يتوسل بقدر معقول من التأدب، بينما هو يحاول تفنيد ما جاء فى المقال فقررت «تشجيعا لحسن التربية والأخلاق» أن أرد على هذا التعليق بالذات.
لقد اجتهد كاتب التعليق المذكور فى مناقشة النقطة الجوهرية التى انصبّ مقالى عليها وهى الخطأ المنهجى الفاحش فى استخدام تعبير «الإسلاموفوبيا» أو الخوف المرضى من الإسلام لدمغ المختلفين مع قطاع من مؤيدى المرشح آنف الذكر، أى هؤلاء الذين لا ينتمون للجماعات المتسربلة برداء الدين ويستهويهم اتباع موضة الرطان الليبرالى أو اليسارى، وأشرت إلى أن معنى هذا المصطلح والبيئة الفكرية والمجتمعية «الغربية»، التى استولدته كلاهما يجعلانه غير صالح بالمرة للاستخدام فى بلادنا ومجتمعاتنا عموما، وخصوصا فى مواجهة مواطنين مسلمين، إلا لو كان أصحاب الفضيلة الليبرالجية الجدد هؤلاء قرروا تكفير خلق الله المسلمين وإخراجهم من الملة حتى يتأهلوا للبس تهمة «الإسلاموفوبيا».
اتفق صاحب التعليق معى -مشكورا- فى أن معنى العنصرية الذى يشير إليه تعبير الإسلاموفوبيا ليس متوافرة أسبابه فى بلادنا ومجتمعاتنا ذات الأغلبية المسلمة، لكنه جادلنى فى انطباق ما اعتبره «باقى معانى المصطلح» على الناقدين لحفنة الليبرالجية واليسارجية السائرين فى ركاب المرشح الرئاسى آنف الذكر، ولإثبات رأيه هذا اقتبس، أو بالأحرى انتزع عبارة من مقالى قلت فيها إن بعض الغربيين «ينمّطون المسلمين ذهنيا ويلغون تنوعهم الطبيعى ويحشرونهم جميعا فى نموذج واحد غريب ومخيف، مما يبرر كراهيتهم والتمييز العنصرى ضدهم..»، وبناء على هذا الاقتباس قال الرجل ما معناه إن القياس جائز، فكما أن بعضهم فى الغرب يأخذ كل المسلمين ويسجنهم كلهم فى صورة ذهنية واحدة، غريبة ومخيفة، فإن شيئا من هذا يحدث عندنا عندما يتم تجاهل أن المنتمين لجماعات الإسلام السياسى ليسوا شيئا واحدا وإنما هم متنوعون ومختلفون.
هذه هى الحجة التى استند إليها أخونا، وردى عليه أن تنوع ظاهرة من يتوسلون بالدين ويستحضرونه «من دون داع مشروع» إلى مجال السياسة، هذا التنوع حقيقة فعلا، غير أن ذلك لا يعنى أبدا أن اصطلاح «الإسلاموفوبيا» يصلح لدمغ من يتجاهلها، إذ من الممكن وصفه مثلا بضيق الأفق، أو أنه يعانى من قصور فى الإدراك، لكن الإسلاموفوبيا أمر آخر مختلف تماما.. لماذا يا هذا؟
لأن مسار حياة المصطلح المذكور بدأ بموقف سلبى «جاهل ومنطلق من نوازع عنصرية» من الإسلام نفسه كفكرة وعقيدة، اعتبرتها بعض النخب الغربية «عقيدة مغلقة وهجومية وحربية الطابع»، وتفتقر إلى وشائج ومشتركات تجمعها بباقى الأديان والثقافات الإنسانية.. هذا الموقف انتقل من أوساط النخبة «على فكرة نخب وباحثين غربيين كثر تولوا بشجاعة واستقامة مهمة دحضه» إلى أوساط الجمهور، خصوصا بعد تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر، ومن ثم شاعت «فوبيا» أو الخوف من المسلمين على أساس أن عقيدتهم تحض على الإرهاب.
طبعا هذه العجالة لا تسمح بمزيد من الشرح «ولا مزيد من التدريس»، لتوضيح مدى غباوة استخدام مفردة الإسلاموفوبيا فى سجال سياسى يدور كله «تقريبا» بين مسلمين.. إنه يشبه فى الخطل تماما وصف اليهود المحترمين الناقدين لإسرائيل، والذين يدينون إجرامها بأنهم «معادون للسامية»!!
«المقالان القديمان انتهيا، لكن النكتة السخيفة لم تنته بعد..».