بعد سنوات طويلة من «اليقين» اكتشفت أني عايش في الوهم، كنت أتخيل نفسي «على طه» ثورجي القاهرة الجديدة، وأنا بالكتير بحاول أكون «علي البدري» ومش عارف، صحيح الأغلبية مشيت ورا محجوب عبدالدايم، بس ابن البدري مش أشرف كتير من «فيلسوف طظ»، وأصدر حكم أن هذا الانحراف النفسي والعقلي ليس جديدا، ولم يأت من ضغوط المرحلة، ولا من الرغبة في تأمين المستقبل بقرشين، لكنه للأسف يأتي من خيبة كبيرة اسمها النضج، وعوامل مساعدة أخرى مثل سعة الأفق، والتسامح والتعايش، وكريمات تبريرية للانحراف من نوع «حط نفسك مكان غيرك»، و«خد عينيا شوفوا بيها»، و«من كان منكم بلا خطيئة»....!!
وبدون لف ودوران أعترف أمامكم بكل بجاحة (لأن الشجاعة لاتصلح في مثل هذه الاعترافات) أنني «باراد وكساوي قديم»، وأنني ضبطت نفسي متلبسا بالتماس العذر للكلب رؤوف علوان، ولم تعجبني سذاجة اللص سعيد مهران، بل وتعاطفت مع ممدوح الليثي ضد عادل حمودة في «قضية عبيطة قديمة» رأيت فيها أن حمودة أكثر استخدامًا وادعاء من الليثي، وبعد أن ذرفت الدموع على مأساة «نوال» في «نهر الحب»اكتشفت أن «طاهر باشا» على حق، وأن «القطر» يجب أن يدوس كل نوال، وكل كارنينا، هذه المفارقات ومفارقات كثيرة غيرها في حياتي تثبت أنني «بارادوكساوي أصلي»، وهذا يعني أنني عندما وصفت الدكتور أسامة الغزالي حرب بهذه الصفة في المقال السابق لم أكن أقصد قدحا يستحق الحذف، لكنني كنت أمهد لاعترافي هذا بإثبات الصفة في مثقف وطني بارز مثل «حرب» نصير السلام، الذي تصور أن «المستقبل» يمكن اصطياده في جمعية يؤسسها جمال مبارك، كما يمكن الجمع بين «التحالف» مع السلطة و«الجبهة» مع المعارضة، الليبرالي الذي يؤمن بالديمقراطية الغربية والتمثيل النيابي عن طريق الانتخابات ثم يقبل التعيين في مجلس الشورى!
وأوضح أنني لم يكن لدي اعتراض على تولي الدكتور حرب لوزارة الثقافة أو أي وزارة أخرى، فهو أحسن من غيره، كما أنني لست ممن يشغلون أنفسهم بلعبة الكراسي ومن يلعبونها، كل الذي صار أني التقطت المفارقة وكتبت عنها، لأشارككم انشغالي بحزازير التاريخ، خاصة أن التطبيع لم يعد وحشا يخيف، بل صار علامة من علامات التحضر!، ويكفي أن نتنياهو صار صديقا لنا بدهائه، فيما صارت حماس عدوا بغبائها.. (وهذا شقلباظ جديد من الشقلباظانات الكثيرة التي نعيشها).
وأوضح أيضا أنني لم أنكر أن الدكتور حرب واحد من المثقفين الكبار، ليس علة طريقة جرامشي المتخلفة، ولكن على طريقة الخبير في تجسير الفجوة بين المثقف والأمير، والأهم أنني لم أحرض على عدم توليه الوزارة، فقد تولاها قبله الطالح والصالح، ولم أوجه إليه أو إليهم كلمة نابية، وكل ماقلته عن الدكتور حرب إنه «باراد كساوي»مثلي، وأنه عضو في جمعية القاهرة للسلام، وأنه التمس طريقه لدى نظام الحزب الوطني (إصلاحيا مرة ومعارضا مرة)، وكان الصراحة يعني.. دؤوبا في التجسير، وهي مجرد معلومات، كما تقول مثلا إن الكاتب محمد سلماوي هو مؤلف «سالومي» أو «اتنين في بلاعة» أو المتحدث باسم لجنة الخمسين لصياغة الدستور الذي يحمي حرية الرأي والتعبير، فهل يمكن أن تدخل مثل هذه المعلومات مثلا في باب التشهير أو السب والقذف؟، طبعا لأ، ولذلك تعجبت أن يتم حذف معلومات معروفة للجميع!!
وقبل أن أسأل وأتحرى عن صاحب قرار الحذف قلت لنفسي ربما كان السبب في اعتماد «كود جديد» لحرية الرأي يمنع مثلا أن تتكلم في موضوعات معينة أو تتناول أشخاصا بذاتهم، وتذكرت منذ سنوات أنني كتبت مقالا عن هالة سرحان، واعتذر لي رئيس تحرير شهير عن نشره قائلا: «معلش اعذرني إلا هالة، وشرح لي أسبابا إنسانية تفهمتها، وسحبت مقالي كله من دون مشكلة، كما أنني احترمت أخي العزيز إبراهيم عيسى عندما قال لي منذ سنوات بمنتهى الأدب: هل تغضب لو طلبت مقالا آخر غير الذي أرسلته، وعرفت أنه بحكم «العيش والملح» لا يريد في صحيفة يرأس تحريرها مساسا بزميله الكبير عادل حمودة، حتى لايفهم الأمر خطأ، وهذه من الأمور التي أقدرها إذا تمت بتفاهم ونقاش، أما أن أفاجأ بأن رأيي يطبخه غيري دون علمي، فهذا يعني أني أكتب بلقمتي، ويبدو أن البعض صدق أنني أكتب لأأكل، ولم يعرف أنني كاتب «باراد وكساوي انقلابي»، لا يؤتمن جانبي لأنني لا أعرف أي شيطان من شياطين الكتابة يتلبسني في هذا المقال أو ذاك، والمؤسف أنه هذه المرة من النوع «النمكي» بتاع التقاليد، فاصبروا علي حتى الغد ربما اعتذر عن هذا التطاول، واسمح بالحذف والإضافة والإملاء كمان، وربما أشعر بالغبطة قريبا وأنا أقرأ مقالات تحمل اسمي من دون أن أكتبها، فمع انهيار التقاليد كل شيء جايز!!
ويا أصدقائي لا تندهشوا.. فما الصحافة أيضا إلا «بارادوكس» كبير.