اعتقد أننى آخر شخص فى مصر يكتب عن هذا الكشف العجيب الذى قضى على التهاب الكبد سى والايدز وانفلونزا الخنازير والسرطان والسكرى وضيق الشرايين التاجية بضربة لازب. فهو باختصار (شربة الحاج داود..اللى بتنزل الدود) التى كانت تباع فى الريف قديمًا..
لقد قيل كل شىء عن الموضوع تقريبًا، وانهالت عليه السخرية فى فيس بوك. لم أر برنامج باسم يوسف بعد لكنى أتخيل الحفل الذى سيقيمه على هذا الخبر. أتكلم هذه الأيام بالذات – يا محاسن الصدف – عن الطب الوهمى والعلم الزائف. إذن هذه ذبابة سمينة وجدت نفسها فى شباكى ويصعب أن أتخلى عنها.
أولاً يوجد خلط عجيب بين لفظتى (تشخيص) و(علاج)... الكل يصر على هذا ربما عمدًا، كأنهم يغلفون الهراء بطبقة رقيقة من الصدق العلمى لنبلع الاثنين معًا. الخبر يبدأ بنجاح جهاز التشخيص وحماس العالم له ثم ينتهى فجأة بالكلام عن جهاز العلاج.
من ناحية التشخيص، فالخبر صحيح وعلمى تمامًا، وهو نتيجة بحث مرهق مصمم بعناية ودقة قام به فريق من العلماء المحترمين، ونشر فى الدوريات العالمية ونوقش فى عدة مؤتمرات. ترأس الفريق الأستاذ الدكتور جمال شيحة، وهو رجل ذو فكر علمى منظم. طبعًا تم تجاهل د. شيحة بالكامل عند ذكر الخبر مؤخرًا فلم تذكره إلا جريدة واحدة. اختبار (سى فاست) معروف لأطباء الكبد حاليًا وهو قائم على فحص البصمة الوراثية لتتابع القواعد فى جزئ RNA للفيروس واكتشافه عن بعد دون أخذ عينة دم من المريض، والمبدأ قابل للتطبيق مع فيروسات أخرى، فى البشر والحيوانات والنباتات.
لكن الخبر كما قلنا يتحدث عن العلاج كذلك.. هذا هو الجزء الذى يقف فى حلقى ولا أبتلعه بتاتًا..
فى الحقيقة لم يتم تسجيل أى اختراع كهذا لعلاج المرض، ولا وجود لهذا الكشف فى الدوريات العلمية على الإطلاق..
قال د. جمال شيحة نفسه فى ندوة بالدقهلية لجمعية مرض الكبد منذ عامين: «إن أى مصرى يتكلم أنه اخترع دواء لالتهاب الكبد سى فهو نصاب. ولست مؤهلاً لعمل دواء.. والمؤهل لذلك هى الدول المتقدمة مثل أمريكا واليابان لأنه يتم الصرف على الدواء الواحد 12 مليار دولار، وعندما تصنع مصر سفينة فضاء يمكن أن نصنع دواء. حتى الصين لا يمكن لها أن تصنع دواء» (اليوم السابع 16 مارس 2012)
زاد الطين بلة عندما رأينا د. إبراهيم عبدالعاطى يتحدث عن اختراعه الغامض هذا.. أدرك رجل الشارع غير المتخصص نفسه أن الرجل يستخدم مصطلحات لا علاقة لها بالطب بتاتًا، ثم أخذته جلالة التظرف فقال إننا نضع الإيدز فى صباع كفتة وهذه قمة الإعجاز، وهذا التعبير فجر ثورة من السخرية لدى المجتمع المصرى كله...
لقد دخلنا عصر الكباب والكفتة فى الطب إذن. عندما رأيت الرجل خطر لى أنه من مريدى العلاج بالأعشاب والطب البديل إياهم، وفعلاً كشفت إحدى الفضائيات أنه كان يقدم برنامجًا عن الأعشاب فى إحدى الفضائيات الدينية.
حسب ما قاله الرجل فالدم يخرج من جسد المريض ليتم تطهيره ثم يُعاد للجسد.. يا سلام!... هل فيروس سى موجود فى الدم فقط؟.. هذا الرجل يخرق قواعد الطب التى يعرفها أى طالب. كلام ملىء بالأخطاء والعك.. والأدهى ان الجهاز – حسب كلامه–يستفيد من البروتين فى الفيروس ليغذى به المريض!!!
يقول الرجل إنه تلقى عرضًا بمليارى دولار ليبيع اكتشافه أو يتنازل عنه لكنه رفض، ثم خطفته المخابرات المصرية وأنقذته.. هل هو يعى فعلاً معنى مليارى دولار؟.. يتكلم عن 14 مليار دولار مصرى.. وتشعر أنه يتكلم بحماس الأطفال (حادفعلك دشليوميت عشرميت جنيه لو لعبت معايا).. ثم هذا الكلام عن المخابرات الذى يذكرك بألف فيلم جاسوسية..
ثم تجد أن هذا الهراء يوافق عليه أطباء كثيرون.. وتجد من يقول إن الاختراع العجيب عالج السرطان والصدفية والسكرى.. وهناك من قال إنه وسع الشرايين التاجية. نسوا أن يقولوا أنه يجلب الرضا والسعادة ويدخل الجنة..
ثم يزداد شكك عندما تعرف أن الاختراع العجيب اسمه (كومبليت سى كيور Complete C cure) وهو لعب واضح على اسم السيسى.. تذكرت على الفور الأستاذ المصرى هاوى الشهرة الذى ذهب للكونغو شهرًا فى الثمانينات ثم عاد ليعلن أنه خلاص وجد علاج الايدز، وأطلق عليه MM1، وقد تبين أن هذا معناه (مبارك – موبوتو).. أى أن العلم يستخدم للنفاق فى مصر دائمًا.. وفى ذلك الوقت تحمست الصحافة والإعلام من اجل العالم المصرى العبقرى، بينما لعب الراحل العظيم يوسف إدريس دور غراب البين المتشكك.. دارت الأيام ونحن نعرف اليوم من كان النصاب ومن كان ضمير العقل وقاضيه.. لكننا لا نتذكر.. لا نتذكر شيئًا على الإطلاق..
من جديد دعنى أذكرك بكلمتى القديمة التى ما زلت أجدها جيدة: «العقلية التى تصدق أى اكتشاف، هى عقلية غير قادرة على التوصل لأى اكتشاف !». والفقرة التالية: « يعلن أحدهم عن كشف غامض، ثم يسرع ليتوارى خلف جدار حصين.. الجدار عبارة عن مقولات نسمعها كل يوم (لن نتقدم أبدًا لأن النفوس وحشة ونحن نحقد على بعض)، (عندنا العلم كله بس يا خسارة)، (المصرى لا يجيد سوى هدم المصري)، (الشركات العملاقة يهمها ألا تظهر هذه الحلول الرخيصة). وراء هذا الجدار ظهر ألف علاج للسرطان وألف علاج للسكرى وألف علاج للالتهاب سى، والويل لمن يجرؤ على التشكك أو يدعو للتعقل.. إنه حاقد ومن حزب اعداء النجاح، ولا يجيد سوى الهدم. فقط يتكفل الزمن بأن يكشف الحقيقة بعد ما يكون الناس قد أنفقوا الملايين وأحرقوا جبالاً من الأحلام».
وأذكرك كذلك بعلامات العلم المزيف السبع التى وضعها العالم الأمريكى روبرت بارك فى كتابه المهم (الفودوو العلمي). العلامة رقم واحد هى أن الباحث يقدم أبحاثه للصحافة ووسائل الإعلام مباشرة ولا يقدمها للمحافل العلمية. طبعًا هذا ما حدث هنا حرفيًا: تقدم كشفك فى مؤتمر صحفى، وأنت تحمل كل هيبة واحترام القوات المسلحة فلا يجرؤ أحد على الاعتراض. لماذا لا تقدم كشفك فى مؤتمر طبى لأمراض الكبد ليسلخك العلماء بأسئلتهم؟
العلامة رقم 2 هى أن الباحث يزعم أن المؤسسات الكبرى تحاول سرقة عمله.. وتبدأ نظريات المؤامرة.. هنا وصلنا إلى محاولة رشوته بمليارى دولار واختطافه مما جعل المخابرات الحربية تخطفه قبل أن يخطفه آخرون. اللواء الباحث يرفض بتاتًا ذكر أى تفاصيل عن عمله حتى لا تتم سرقته من شركات أدوية.. يا سلام!.. ومتى يتم نشره إذن؟ ومتى يتم تمحيصه؟
العلامة الثالثة هى أن الباحث أجرى أبحاثه منفردًا.. المقصود هنا أنه يعمل دون تواصل مع مؤسسات بحثية كبرى. عندما كنا نتكلم عن التشخيص يمكنك ان تعرف كل تفاصيل البحث والعاملين فيه والتعاون مع أطباء باكستانيين.. الخ.. لماذا؟.. لأن السى فاست كشف علمى مهم فعلاً، أما هذا فهراء.
العلامة الرابعة هى أن الباحث يعتمد على أدلة شفهية Anecdotal evidence لتدعيم كلامه. هل من دليل عن شفاء من تم شفاؤهم سوى كلام اللواء؟ وسوى كلمة (انت كان عندك إيدز وراح) حتى تذكرت المعالجين الروحانيين (انت كان عليك عفريت ومشى يا بنى). العلامة التالية هى أن الكشف يحتاج إلى تغيير مفاهيمنا لقوانين الطبيعة. الفيروس سى يحوى DNa وليسRNA.. والبروتين يمكن تحويله لكفتة.. والسرطان والسكرى نتيجة فيروسات..
إذن نحن نملك خمس علامات من سبع على أن هذا الكلام فارغ... هل هذا كاف؟
إقحام الجيش فى هذا الكلام الفارغ خطر جدًا ويهينه بشدة. كنا نعترض على إقحام الجيش فى السياسة واليوم نتكلم عن إقحامه فى الطب!.. هذا يؤذى الاثنين معًا: الجيش والطب.
انبرى الدكتور عصام حجى المستشار العلمى لرئيس الجمهورية ينتصر للعلم ويصف الابتكار بأنه فضيحة علمية لمصر – وهى كذلك فعلاً–وكانت النتيجة أن الهجوم انهال عليه من المتحمسين دائمًا، الجاهزين لتصديق أى شىء..
يمكنك طبعًا أن تقرأ ردود الفعل العالمية الساخرة على هذا المؤتمر، وان ترى الحفل الذى أقامته قناة الجزيرة على شرف الطب المصرى عدة أيام.
حرام عليكم.. مصر لا تستحق كل هذه البهدلة.. ماذا فعلتْ لكم لتكرهوها بهذا القدر، وتهينوها بهذا الشكل؟.. للحديث بقية على كل حال ....................