عندما يكتب الكاتب، هل تنفصل يده عنه لتصبح بمثابة قرين منفصل عن باقى جسده، تأتمر بأمر صاحبها الكاتب أحياناً فتملى عليه ما يكتبه وكأنها كيان آخر منفصل بينما يأتمر الكاتب بأمرها أحياناً أخرى فيسوقها بإرادته الحرة إلى كتابة ما يريده هو؟
هو تساؤل أبعد بكثير مما يبدو عليه من مباشرة ساذجة ومن إجابة تبدو منطقية وتتمثل فى أنه «اليد بمنتهى البساطة ليست سوى آداة لترجمة ما يدور بذهن وخلايا مخ الكاتب». ففى أحيان كثيرة يجد الكاتب نفسه منساقاً إلى تدوين كتابات يشعر أن أحداً ما يمليها عليه حتى أنه فى أحيان عديدة يفقد السيطرة على شخوص رواياته فيسبقونه بأفكارهم ويملون هم عليه الطريقة التى يتصرفون بها والأفعال التى ينبغى عليهم فعلها، وعلى الرغم من أن هذا يأتى فى معظم الحالات كنتيجة حتمية ومنطقية لما قد وضعه هو فى البداية من صفات عامة للشخصية ومن تركيب محكم لتفاصيلها إلى الدرجة التى تجعلها تسوقه أحياناً بدلاً من أن يسوقها هو، إلا أن المسألة –مسألة الكتابة- يظل لها بعدها السحرى الغامض الذى يجعل من ذلك التساؤل الفلسفى فى البداية موضوعاً خصباً للتفكير والتساؤل بشأنه.
يعبر الكُتَّاب عن ذلك التساؤل الذى يقبع فى أذهان معظمهم من خلال العديد من الكتابات والروايات والقصص التى تتناول شخصية القرين من حيث هو جزء منفصل عن الجسد، وفى هذا الصدد تذكر «مارجريت أتوود» فى كتابها الجميل «مفاوضات مع الموتى» –ترجمته عزة مازن وأصدره المجلس الأعلى للثقافة ضمن سلسلة المشروع القومى للترجمة وتأخذنا من خلاله «أتوود» فى رحلة تأملية لكاتبة حول الكتابة وتفاصيلها- مجموعة من أهم القصص التى عبر فيها الكُتَّاب عن ذلك القرين المنفصل عن الجسد والقادر على فعل العديد من الأمور التى لا يستطيع الشخص الأصلى فعلها.
تذكر لنا على سبيل المثال قصة قرأتها فى مراهقتها بعنوان «الوحش ذى الأصابع الخمسة»، «و تدور حول رجل سيء الخُلُق يزور عمه الورع المريض، ممنياً نفسه بنصيب فى وصيته، ويلاحظ الرجل أن العجوز نائم بينما يده ليست كذلك. كانت اليد منهمكة فى الكتابة، تكتب ضمن ما تكتب توقيع العجوز، رأى الرجل فى ذلك نموذجاً ممتعاً على آلية الكتابة، ولم يرتب فى الأمر أو يظن به أبعد من ذلك. وكم كانت صدمته عندما مات عمه العجوز وتسلم طرداً يحوى اليد، بعد أن زيَّفت اليد الوصية وأوصت بأن تقطع من العجوز وتُرسل له بالبريد، لم تكن يداً ميتة على الإطلاق، بل قفزت خارجة وراحت تزحف متسلقة الستائر، وبدأت تفسد حياة البطل وتحطمها، كما يفعل غيرها من القرناء. (كان باستطاعتها، على سبيل المثال، أن تكتب رسائل وتوقعها باسم البطل). أوقع الرجل بها وثبتها بمسمار إلى لوح خشبى، ولكنها هربت، وبها ثقب مسنن من أثر المسمار، وعزمت على الإنتقام. انتهت الأمور نهاية سيئة كما قد تتوقعون، فقد حطم الرجل اليد، ولكنها هى الأخرى حطمته، كاشفة بذلك عن نسبها الأدبى لصاحبها العجوز الورع ومنتقمة من طمع وجشع القريب سيء الأخلاق».
يد العجوز فى تلك القصة ليست سوى تجسيد ليد الكاتب التى يظل ما كتبته باقياً بين دفتى كتاب حتى بعد رحيل الكاتب نفسه، حيث تظل اليد تمارس تأثيرها على كل من يقرأ
ما كتبته على الرغم من أن صاحب اليد نفسه قد رحل منذ سنوات، وربما منذ قرون.
«يعيش الكتاب بعد موت مؤلفه، ويتحرك أيضاً، ويمكن القول إنه هو الآخر يتغير، ولكن ليس فى أسلوب الحكى. إنه يتغير من حيث طريقة القراءة. وكما لاحظ كثير من الباحثين، يعيد كل جيل من القراء إبداع الأعمال الأدبية، فهم يجعلونها جديدة بالعثور على معان جديدة فيها. فنص الكتاب المطبوع مثل المدونة الموسيقية التى ليست فى حد ذاتها موسيقى. ولكنها تتحول إلى موسيقى عندما يعزفها موسيقيون، ففعل قراءة النصوص مثل عزف الموسيقى والإستماع إليها فى آن، حيث يصبح القاريء هو المؤدى لمقطوعنه الموسيقية المكتوبة سلفاً».
مساكين هم الكُتَّاب، فبعد أن تم انتهاك مهنتهم ليصبح الجميع كُتَّاب، هم يواجهون أيضاً كل تلك المعانى المختلفة -باختلاف الأزمنة والعصور- التى سوف يُسبِغها قرائهم على ما كتبته أيديهم، حتى بعد رحيلهم هم أنفسهم عن ذلك العالم.