تواجه مصر فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخها هجمة شرسة على المواقع الأثرية ومخازن الآثار والمتاحف والتراث المعمارى، وهى هجمة غير مسبوقة أظهرت أوجه القصور فى حماية هذه الآثار والتراث، وتؤدى هذه الهجمة البربرية إلى خسائر لا تعوض من الناحية المعنوية والمادية فهما مصدر اقتصادى لا يستهان به من خلال الدخل من السياحة والخدمات والسلع المرتبطة بذلك.
ولكن الأهم أن الآثار والتراث مصدرا عزة وكرامة، وهما أيضا مصدر هويتنا المتعددة الجوانب والأبعاد، وهما الحافز على أن نبذل الجهد لنكون جديرين بما خلفه لنا الأقدمون. وما هى مصر كما نعرفها ويعرفها العالم بدون آثار ماضيها التليد من كل العصور التى شهدتها الإنسانية، والعار أن النهب العلنى والفجور قد وصل إلى أن تعلن قرية (نجع الجعلانية، أسوان) استيلاءها على منطقة آثار وتقوم بالحفائر وتنهب آثار هذه المقابر ثم ترويجها سياحيا لحساب الأهالى (المصرى اليوم 10/2/2014)، وطرْد المفتشين من المنطقة، بل وطرْد مسؤول كبير بالآثار من الموقع مع غياب تام للأمن، مما يشجع الآخرين على القيام بمثل هذه الأفعال المارقة، ومما يسىء إساءة بالغة إلى هيبة الدولة فى الداخل وسمعة مصر فى المجال الدولى كدولة لا تستطيع أن تصون مقدراتها، مما قد يدعو البعض إلى تصنيفها كدولة فاشلة.
لا بد إذن من تدخل حاسم وسريع، وهناك بالطبع حاجة إلى جهود أمنية لتعزيز الحراسة، وهو ليس الحل الأفضل، لأنه مكلف ويمثل للأهالى تدخلًا غير مرغوب فيه بين الأهالى
(العامل على الباطل) والقوات الأمنية قد يؤدى إلى مواجهات لا تحمد عقباها.
ونرى أن تأمين المواقع الأثرية والمتاحف والتراث المعمارى لن ينجح مهما كانت وسائله، إذ ما لم يتم تنشيط وتفعيل الأهالى للدفاع عن الآثار فى محيط نفوذهم وما لم تقُم الدولة بخطوات إيجابية تسمح بمشاركة الأهالى فى الاستفادة المعنوية والمادية من الآثار فى ناحيتهم.
ولا يتطلب الأمر تكاليف باهظة أو وقتا طويلا لتنفيذه. وهناك تجربة فى منطقة دهشور قامت بها اليونسكو لتأهيل الشباب للمحافظة على التراث من خلال دورة من المحاضرات والزيارة للمنطقة الأثرية ولا تتعدى مدة الدورة عدة أسابيع يتعرف فيها الشاب أو الفتاة (من طلبة الجامعات أو حديثى التخرج) على المفاهيم الأساسية للتراث وطرق المحافظة عليه وأنواع المخاطر التى يتعرض لها، كما يتعرفون على المعالم الأثرية والتراث الطبيعى والريفى فى المناطق المجاورة لقراهم.
وقد قام هؤلاء الشباب من تلقاء أنفسهم بعد هذه الدورة بتنظيمهم وقفة لشجب وإدانة من يقومون بالتعدى على آثار دهشور نقلتها الصحف العالمية. ولعلها أول وقفة من نوعها على ما نعرف، كما أن هؤلاء الشباب على استعداد للإسهام فى أى نشاط حكومى أو أهلى بصفتهم «حراسًا للتراث» وقد منحتهم الجامعة الفرنسية بمصر شهادات بذلك فى بادرة غير مسبوقة من الجامعات المصرية.
وللعلم لن تتكلف 10 دورات فى 10 مناطق آثار إلا نحو مئتى ألف جنيه، وهو مبلغ لا يذكر بالمقارنة بحجم الخسارة المادية أو المعنوية لفقدان الآثار أو ما ينفق على الحراسة.
ينبغى أولًا أن نعمم هذه التجربة فى كل المناطق الأثرية، أولا فى كل القرى والمراكز، والمدن. كما ينبغى أن تتولى الجمعيات الأهلية والحكومية (وزارات السياحة، الآثار، الشباب، والصناعة والاستثمار، والتضامن الاجتماعى) تعظيم استفادة الشباب من المناطق الأثرية والتراث من خلال مشروعات صغيرة لتشجيع الحرف والصناعات والأعمال السياحية كإنشاء أيكو لودج (نزل بيئى) أو الانخراط فى الإرشاد السياحى المحلى.
ونقترح أيضا أن يكون هناك «بيت تراث» فى المناطق السياحية تتم من خلاله المحافظة على التراث والتوعية والأنشطة التى تنمى روح المواطنة والاهتمام بالتراث، والتصدى للتعديات على المناطق الأثرية.
ومن هؤلاء الشباب الجامعيين يمكن أن يتم اختيار المتفوقين منهم والمؤهلين بدنيا للالتحاق بكلية الشرطة لعدة أشهر لتأهيلهم لحماية المناطق الأثرية والتعاون مع وحدات أمنية متمركزة بالمناطق الأثرية مؤهلة للانتقال السريع والاتصال الفورى للتبليغ والغوث، وتستلزم المناطق النائية الاستعانة بدوريات وطائرات صغيرة للمراقبة والمتابعة.