اعتادت الولايات المتحدة إصدار تقارير سنوية، وغير دورية عن حالة حقوق الإنسان فى العالم، توزع من خلالها الدرجات على الدول وتضع من جانبها مقياسًا لحقوق الإنسان فى العالم. كانت واشنطن تفعل ذلك منذ الحرب الباردة التى استمرت فى الفترة من ١٩٤٩ وحتى ١٩٨٩، تاريخ سقوط حائط برلين، أو ١٩٩١ وهو تاريخ تفكك الاتحاد السوفييتى.
طوال تلك الفترة كانت واشنطن تمنح الدرجات المتدنية وتوجه أصابع الاتهام إلى دول المعسكر الشرقى ودول العالم الثالث المتحالفة معها، كانت تركز على انتهاكات حقوق الإنسان فى الاتحاد السوفييتى ودول شرق ووسط أوروبا وتحديدًا أعضاء حلف وارسو الذى تأسس عام ١٩٥٥ ليواجه الحلف الغربى الذى ظهر إلى الوجود قبل ست سنوات (١٩٤٩). وركزت واشنطن فى الوقت نفسه على انتهاكات حقوق الإنسان فى دول العالم الثالث التى كانت أقرب إلى الكتلة الشرقية، رأينا تقارير أمريكية تركز بالتفصيل على حالة حقوق الإنسان فى الشرق، فى روسيا وألمانيا الشرقية وبولندا وغيرها، وشغلت دول العالم الثالث التى كانت مؤيدة للمعسكر الشرقى أو متحالفة معها، مساحات كبيرة من تقارير واشنطن حول حالة حقوق الإنسان فى العالم. نعم فى ذلك الوقت كانت هناك انتهاكات لحقوق الإنسان فى دول المعسكر الشرقى، وكان هناك قمع للحريات وللأقليات أيضا، وكذلك الأمر فى دول العالم الثالث المتحالفة مع المعسكر الشرقى، لكن انتهاكات فى الغرب ودول العالم الثالث المتحالفة معه لم تكن تقل عما كان يحدث فى الشرق، بل كانت تزيد عليها فى حالات كثيرة. على سبيل المثال فإن واشنطن نفسها أقامت معسكرات اعتقال لكل اليابانيين الموجودين على الأراضى الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تستثن منهم المواطنين الأمريكيين من أصول يابانية، انتزعتهم من منازلهم وأعمالهم ووضعتهم فى معسكرات طوال فترة الحرب. أيضا كانت الانتهاكات لحقوق ذوى البشرة السمراء على أشدها، ولم تكن المساواة بين المواطنين قد استقرت بعد هناك.
فى نفس الوقت ارتكبت القوات الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية جرائم بشعة فى البلدان التى دخلتها أو حاولت احتلالها، كانت واشنطن هى الدولة الوحيدة فى العالم التى استخدمت السلاح النووى ضد مدنيين أبرياء عندما ضرب مدينتى هيروشيما ونجازاكى، اليابانيتين بالقنابل النووية ردًّا على ضرب الطائرات اليابانية للأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر.
الجرائم الأكبر ارتكبتها واشنطن خارج حدودها، ضد شعوب أخرى بشكل مباشر وغير مباشر، بشكل مباشر فى الدول التى احتلتها قوات أمريكية أو وجدت على أراضيها، ولعل النموذج الأحدث هنا هو العراق الذى مارست فيه القوات الأمريكية أبشع أشكال القتل والتعذيب، وأقامت على أراضيه أسوأ السجون فى العالم وهو سجن أبو غريب، الذى كان عبارة عن معتقل للتنكيل بالبشر وانتهاك آدميتهم، من تعذيب، وسحل، وقتل، وحرق، بل وتمثيل بالجثث، فعلى أرض العراق حرقت القوات الأمريكية بشرًا أحياء، لم تفرق بين مدنى أعزل وعسكرى، استهدفت منشآت ومبانى مدنية بدعوى وجود سلاح فيها، فقُتل الآلاف. وعلى أرض كوبا أقامت واشنطن أسوأ معسكر اعتقال فى العصر الحديث، معسكر جوانتانامو الذى انتهكت فيه آدمية البشر من شتى الجنسيات.
أما الجرائم الأكبر التى ارتكبتها الولايات المتحدة فكانت بشكل غير مباشر عبر دعم أنظمة حكم ديكتاتورية واستبدادية مارست أبشع جرائم القتل والتعذيب بحق مواطنيها، كانت واشنطن هى الداعم لنظم حكم ارتكبت جرائم بحق مواطنيها، كانت وراء دعم كل النظم العسكرية فى أمريكا اللاتينية، تلك النظم التى ارتكبت أبشع الجرائم بحق شعوبها، من أمثال بينوشيه فى تشيلى الذى وضع معارضيه فى ملعب سانتياجو وأبادهم جميعًا، نُظم حكم كانت تضع المعارضين داخل شباك صيد وتلقى بهم طائرات الهيلكوبتر فى قلب المحيط، كل هذه النظم كانت مدعومة من واشنطن ولم توجه تقارير حقوق الإنسان الأمريكية الاتهام إليها. ويكفى أن نشير هنا إلى عدم ورود جرائم إسرائيل فى حق الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان التى مارستها وتمارسها القوات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى فى التقارير الأمريكية لحقوق الإنسان، بل إن هذه التقارير ترصد أعمال المقاومة والأعمال المسلحة ضد قوات الاحتلال باعتبارها أعمالًا إرهابية. نفهم أن يطلق ذلك على العمليات التفجيرية ضد المدنيين، لكن أعمال المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال هى أعمال مشروعة بموجب ميثاق الأمم المتحدة، ومع ذلك تجرمها التقارير الأمريكية.
حقوق الإنسان لدى واشنطن أداة ووسيلة تستخدم لاعتبارات سياسية ولا مكان للإنسان وحقوقه فى سياسة قلب وعقل صانع القرار الأمريكى إلا بقدر ما يخدم أهداف السياسة الخارجية، ومن ثم فالاستخدام غائىٌّ والهدف سياسى، لا إنسانى.