لو كان موجودًا.. لما قامت الثورة
كان السياسى المخضرم يجزم فى جلسة أمام شباب يهزّون رؤوسهم، هم أبناء طبقات كانت مستعدة للقفز إلى وراثة الأدوار فى السلطة واحتكار الثروات، وقبل أن تمد سيقانهم فى جسد الدولة. حدث الزلزال وتفكك الجسد العجوز/ الهزيل.. وبدت سيقانهم مرفوعة فى الهواء يبحثون عن عكازات يستعيدون بها التوازن.
العجوز الذى لا تنقصه فتنة الحكى، وما زالت تجذبه شهوة المتع التى حصل عليها بالقرب من السلطة، ولهذا قاد الشباب المفتون بماضى الدولة، إلى نجمها فى لحظة الفتنة.
نعم إنهم شباب، لكنهم فى الجانب الآخر يحبون تراثها الثقيل المرهون بجدها البيروقراطى، هم الذين غادروها فى لحظة مع أحمد عز ببريق الملياردير الذى معه كتالوج التحديث، وكان يحمل معه أوعية الطلاء، لكنه الآن فى سجنه. النادم الأكبر على مغادرته مواقع صنع الثروة، وها هم شباب أثرياء الدولة يشعرون بالحنين إلى كمال الشاذلى، الباشا الصاعد بقوة وظيفته البيروقراطية، والإقطاعى من دون أصول إقطاعية، والوزير الدائم والزعيم الأبدى.. إنه شخصية فوق تاريخية فى مدينته.
خبرة «نادرة» كان من الصعب تجهيز بديلها بين يوم وليلة.
والتصميم الأساسى للنظام السياسى يعتمد على الشاذلى بدرجة لا يمكن تخيلها. يحمى نفسه بملفات جاهزة للجميع. ويدير النواب بمنطق القطيع يشد ويرخى. عارف بخبايا ودهاليز كل موقع فى مصر. لديه خريطة الأنصار ومناطق الضعف. ورغم أنها قديمة، فإنها الوحيدة على العموم.
كمال الشاذلى علامة من علامات عصر مبارك. كان رمزًا لقوة النظام وهو فى كامل صحته، وجبروته، مصارعًا مرعبًا فى حلبة البرلمان، ويوقف المعارضين عند حدودهم فى استعراضات مذاعة على الهواء، وعندما ظهرت صورته بعد العودة من رحلة علاج، وإعلان عن الترشح فى الانتخابات المقبلة، ليكسر الرقم القياسى الذى أدخله موسوعة جينيس، أقام تحت قبة البرلمان 46 عامًا، ورغم غيابه وانصهار جسده تحت ضربات السرطان، فإنه قبل موته بأسابيع عاد والتقط صورًا استدعت التعاطف (فَقد أكثر من نصف وزنه ولم يعد هو ذاته الديك المنفوخ الخارج من حظيرة بيت فلاحى). بدأ حتى اللحظة الأخيرة متمسكًا بمقعده رغم أن جسده راح منه، وبقيت منه إشارة أو ظل، أو شبح يشير إلى قوة غابرة.
صورة الشاذلى الأخيرة كانت هى صورة النظام فى لحظاته الأخيرة. هزال، وعدم قدرة على إدراك ما تعنيه الشيخوخة، وما يستوجبه تجديد شباب الدولة.
كمال الشاذلى الآخر استقبله أهل الدائرة بعد المرض، باحتفال ومهرجان حقيقى، وغنوا له: «فى كل شارع فى كل حى.. أنوار بتضوى فى ليلنا ضى.. سألت أهلى وحبايبى.. قالوا النهارده وزيرنا جاى».
الـ«نا» الجماعية خافت من مصيرها بعد غياب الـ«أنا» العليا المقيمة فى منطقة بين يد الواقع والأسطورة.
هو عابر للعصور. فى خدمة السلطة ما دامت سلطة. ولاء على الطريقة الريفية. تابع وليس سياسيًّا. بارع فى تكوين جيوش الموالين والمرتزقة وفق عقيدة الإيمان برأس النظام وحكمته.. وأنه القادر على تحقيق المصلحة.
كان يعرف خريطة السيطرة على الأرض.. عندما كان مسؤول التنظيم فى الحزب الحاكم، يعرف تفاصيل «قيادات الشارع»، ومفاتيح الوصول إلى المقاعد البرلمانية. خريطة سرية، جعلته كاهن البرلمان وحامل أختام الوصول إليه. لم يصل أحد البرلمان، طوال سيطرته على موقعه، إلا ومرّ من بوابته، عبر صفقة أو اتفاق شفهى، أو ملف مستمسكات يخرج فى الوقت اللازم. قيل إنه أوحى لعلاء الأسوانى فى «عمارة يعقوبيان»، بشخصية «الفولى» (فى الفيلم لعب الدور خالد صالح) وسيط وسمسار السلطة، وجامع ثرواتها من الشوارع، والعارف بالأسرار، والمسيطر على الشبكات المعقدة، بخلطة تعلّمها من كهنة العصور المتعاقبة، الذين التقطوه كموديل ما بعد الملكية، حيث كانت الثورة تحتاج إلى كوادر من نوع مختلف عن سياسيى ما قبل الثورة «الباشوات والأفندية وملّاك الأراضى وغيرهم من موديلات السياسة فى العصر الملكى».
قال الشاذلى عندما أُبعد من الوزارة إن الرئيس رأى أنه يحتاجه فى المجالس القومية المتخصصة، وهذا يعنى أنه يريد أن يحدث بها تطوير «وهو كلام قاله من قبل صفوت الشريف عندما أُبعد عن وزارة الإعلام التى ظل على رأسها 22 عامًا».
«أنا تحت أمر الرئيس»، هكذا قال الشاذلى ليبرهن على أنه المنتمى بإخلاص لنظام يعتمد على ثقافة التبعية الريفية.
كمال الشاذلى هو رمز يمكن تحليله لمعرفة مسيرة نظام العسكرتاريا من عبد الناصر إلى مبارك.
كتب كمال الشاذلى عن نفسه يوم 6 مارس عام 1964.
كان وقتها فى أول أيامه فى مجلس الأمة «الاسم القديم لمجلس الشعب». وفى استمارة تعريف تضعها صحيفة «الأهرام» فى صدر ملف يضم الأرشيف الصحفى الخاص بها، كتب كمال الشاذلى أنه مولود فى 16 فبراير العام 1934 «هو إذن كان أصغر ديناصورات الحزب الحاكم». محل الميلاد: الباجور «المدينة التى أصبحت شهيرة به فى المنوفية الموطن الأصلى للرئيسين السادات ومبارك، وهو موضع سخرية الشعب المصرى الذى يتندر على فكرة أن مصر تحت حكم المنايفة منذ 34 عامًا».
رقم هاتفه وقتها كان يحمل رقم 65.
ورغم أنه متخرج فقط منذ سبع سنوات فى كلية حقوق القاهرة، فإنه يشغل منصب مدير مكتب القوى العاملة فى منوف وقبلها كان مفتش أول عمل فى منوف، بل إنه كان أيضًا رئيس المكتب التنفيذى لنادى الباجور الرياضى «والباجور الآن مدينة فيها حمام سباحة على مساحة كبيرة وتتميز بموقع خاص لقصر كمال الشاذلى الذى يستمتع بصوره بأحجام كبيرة ولافتات تأييد له من جاليات الباجور فى باريس وقطر والسعودية».
النكتة طبعًا أنه كان يهوى الكرة الطائرة.
لكن اللافت للنظر كانت إجابة كمال الشاذلى على سؤال: ما أهم المشروعات والقوانين التى ترى ضرورة المطالبة بها فى مجلس الأمة؟!
قال: «الارتقاء بالقرية إلى المستوى الحضرى من الناحية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية»، و«تصنيع الريف لتشغيل الأيدى الزائدة على حاجة الزراعة»، و«الحفاظ على مكاسبنا الثورية»، والأهم «تطبيق مبادئ الميثاق الوطنى الذى هو دستور العمل الثورى لنحقق أهداف الشعب فى الاشتراكية والحرية والوحدة». بالطبع تحدث كمال الشاذلى بنفس الحماسة عن فكرة السوق الحرة، بل إنه غيّر بدلة السفارى الشهيرة فى أوساط أعضاء الاتحاد الاشتراكى، وأصبحت صوره الشهيرة أقرب إلى أغنياء الانفتاح بالكروش المنفوخة وملامح الثروات المفاجئة.
كمال الشاذلى باختصار «مثقف عضوى» لكن بكتالوج لم يعرفه جرامشى. وليس أكثر دلالة على ركاكة الطبقة التى تسعى إلى استرداد جد الدولة.. من حنينها للساطع فى سموات «الدولتيين» كمال الشاذلى.
«من حكايات القاهرة»