عندما اندلعت تظاهرات يناير وتحوّلت إلى ثورة شعبية، اتجهنا من السعى لتحقيق عدة مطالب إلى إسقاط نظام سياسى فاسد، ثم انقلب الأمر إلى هدم الدولة بكل مؤسّساتها وبنيتها الاقتصادية. للمثاليين الهدف كان بناء دولة المساواة والعدالة، وللمتطلّعين للسلطة فالهدف أن يحلّوا مكان سلطة سقطت.
هدم الدولة سهل، فالهدد لا يحتاج إلى مهارة كبيرة، بل فقط إلى معاول هدم، وسريعا ما أدركنا توافر مقاولى الهدد فى بلدنا، أما البناء فيحتاج إلى مهارة وفن، تخطيط وتصميم علمى. ومع دنوّ لحظة البناء اكتشفنا أن مَن اعتقدناهم مهندسى بناء دولتنا الحديثة ليسوا إلا هواة! مدّعين، تناسوا أن التخطيط للبناء يسبق الهدم.
بسقوط السلطة وجدنا جيشا منظّما قرر عدم السماح بهدم الوطن مهما كان الدافع أو الثمن، وتنظيما مجيّشا يتربّص بالوطن، لا يعنيه شعب أو أرض، بل السلطة التى قد يهدم فى سبيلها حتى الوطن.
بين هؤلاء حزمة من الأحزاب والتيارات السياسية «أو هكذا يدّعون»، ظواهر صوتية، يُثيرون ضجيجا هائلا من آن لآخر، لكن عند النتائج والأثر لا ينجزون شيئا يذكر، لا يشعر بهم إلا بعضهم. يساهمون فى الهدم بأدائهم المايع الذى لا يعزّز إلا طموح المتربصين.. سياسيونا هواة بلا رؤية حقيقية ولا خطة عمل.
ليستمر الصراع، بين الهدم والبناء.
هل ما زلت تؤمن بأن البلد يحتاج إلى الاستمرار فى الهدم وتسمّيه «ثورة»؟ هل نستمر فى نفس الأداء، هدم من القمة، يتغلغل للوصول إلى القاعدة، لتصبح البلاد رمادا؟
ألم تدرك أن البلد لا يحتاج إلا إصلاحا من القاعدة وبناءً دؤوبا، يؤثّر تدريجيا على السلطة وتوجهاتها «الثورة الحقيقية التى نحتاج». كيف يمكن أن نراهن على سلطة مثالية بكل التخبّط وضبابية الرؤية وضعف الأداء القاعدى والجماهيرى لدى النشطاء والأحزاب؟ وغياب الأدوات المعرفية والوعى الذى يُساعد المواطنين أن يكونوا جزءا من العملية السياسية، ويختاروا برشادة وفق مصالحهم وحقوقهم العادلة؟
هل من الصواب أن نركن إلى الحالة الثورية فى مجتمع يحتاج إلى إصلاح حقيقى؟ مع ملاحظة أن حالتنا الثورية لم تعد حقيقية، بل زائفة، تنديد مستمر بلا فعل ملموس. نحن تجّار، نروّج لبضاعتنا البائرة، ولا نصلح أو ننتج شيئا حقيقيا.
نحتاج إلى ثورة على أنفسنا وانتهازيتنا، وأن نتوجّه إلى الناس نبشرهم بثورة للعمل، نحرّضهم على نبذ المعتقدات والممارسات الظالمة فى ما بينهم، نوعّيهم بحقوقهم، وندعم سعيهم إلى بلورة قضاياهم والعمل عليها.
ثورة يناير كانت نقطة فاصلة، هدم الشعب سلطة فاسدة، لكن الاستمرار بنفس المنهجية فهو إما غباء أو إنكار لعدم القدرة على البناء، هروب من مواجهة أنفسنا وفشلنا مكابرة، بديلا عن الاعتراف بالخواء الفكرى والمنهجى.
ماذا يحرّكنا؟ الناس والبلد أم السلطة أم طموحاتنا المتأرجحة؟ أم ربما أفكار ونظريات تشبثنا بها طيلة مسيرتنا، وصار من الصعب المراجعة والاعتراف بأنها لا تصلح إلا للتنظير؟
هناك مَن يخرجون فى سعى لاستبدال حالهم بحال أفضل، يقيمون ثورة ثم يبنون وطنا، وهناك من لم يدركوا من السياسة إلا الثورة «والتى لم يفهموا منها إلا الهدد».
ماذا يمنعنا عن البناء؟ أن نبذر الحرية والمساواة بين الناس. ماذا يمنع النشطاء والأحزاب والمؤسسات السياسية والحقوقية من العمل وسط الفقراء والمهمشين؟ لا شىء إلا ضعف الهمّة والإرادة الحقيقية.
ليس من المستغرب أن تجد على «فيسبوك» و«تويتر» مَن يبشرون بثورة العمال «حافظ بحكم الانتماء الحزبى»، بل والتحريض على الاعتصامات وقف العمل بلا أدنى مسؤولية تجاه العمال والعمل والوطن «دون فهم أن توقّف المصانع سيوقف ليس فقط دخلها بل دخل العمال وأسرهم»، الغريب فعلا أن يأتى ذلك التحريض من نشطاء يعملون فى منظمات دولية، ويحصّلون أجورهم بعملات أجنبية، ولا يتنازلون عن مدارس دولية «وليس مجرد خاصة» لأبنائهم. هل يدرك هؤلاء الثوار المغاوير وهم فى مكاتبهم الفارهة ما هو الأثر الحقيقى على العامل الذى يحرّضونه على الاعتصام؟ أو على المصانع التى بالكاد تعمل؟
لسنا ضد حقوق العمال، بل ندرك أن العمال لن يحصلوا على حقوقهم، وكل أبناء هذا الوطن، إلا باكتمال البناء. بتفعيل الدستور فى قوانين عادلة، وإصدار نظام عدالة صارم ينصف العمال والفقراء، بالخروج من الأزمة الاقتصادية التى تتجدد وتتعمّق بفعل مقاولى الهدد واستهداف الاقتصاد الوطنى.
هل هو أوان الاعتصامات أم أوان أن تتركوا مكاتبكم يا «ثوار» وتتجهوا إلى العمال، لتحوّلوا مطالبهم العادلة إلى مشروعات قوانين وبرامج عمل، وتشكّلوا رأيا عاما لدعمها، حتى تصبح أمرا واقعا، فتتحوّلون من الإذاعات المباشرة من مكاتبكم ومقاهيكم وحاناتكم إلى بثّ مباشر وسط الناس؟
سنظلّ على هذا الحال إلى أن نشهد ثورة أخرى فى أوساط النشطاء والأحزاب والمراكز والحركات، ثورة على فسادهم وفشلهم، تبدّل المناهج، وتأتى بوجوه جديدة تقود حملة إصلاح حقيقية فى حياة الناس.