مع تصاعد أعمال الاحتجاج والفوضى فى أوكرانيا، صوّت البرلمان على عزل الرئيس، وقرر تعيين رئيسه كرئيس مؤقت للبلاد، غادر الرئيس المعزول يانوكوفيتش العاصمة وذهب إلى الشرق، حيث معقل مؤيديه. عمّت الاحتفالات الشطر الغربى المدعوم من الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، توتر الموقف فى الشطر الشرقى وهناك مَن دعا إلى المواجهة واسترداد الحكم، أعلنت روسيا الاتحادية حالة الطوارئ بين قواتها الموجودة على الحدود الغربية المجاورة لأوكرانيا، فى رسالة واضحة للغرب بأن روسيا لن تقبل بهيمنة الغرب على الدولة التى كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتى السابق والتى يمثّل فيها السكان من أصل روسى الغالبية.
ما يهمّنا هنا هو ما صدر عن الخارجية الأمريكية بشأن ما جرى فى أوكراينا، فقد أعلنت الخارجية الأمريكية تأييدها لما جرى، ودعمها لثورة الشعب الأوكرانى على الرئيس يانوكوفيتش، وقال البيان فى تبرير الإطاحة الشعبية برئيس منتخب ديمقراطيًّا إن القضية ليست مجرد الانتخابات، بل الممارسة والأداء، فالشرعية هى للأداء وليست فقط لصناديق الانتخابات، وهو قول صحيح مئة فى المئة، فالديمقراطية ليست مجرد انتخابات، الديمقراطية ثقافة وقيم من ناحية وانتخابات حرة نزيهة من ناحية ثانية، ولا ديمقراطية دون انتخابات، ولا انتخابات حرة دون قيم الديمقراطية وقواها، وصناديق الانتخاب هنا هى المحطة الأخيرة فى الديمقراطية، فهى التى يقرر الشعب من خلالها مَن يريد فى المنصب الذى يجرى التنافس عليه. أيضًا فإن انتخاب الرئيس بطريقة ديمقراطية يعنى أنه بات الرئيس الشرعى للبلاد، ولكن شرعيته تعتمد على الممارسة والإنجاز، فليس معنى أنه منتخب بطريقة ديمقراطية أن من حقّه أن يفعل ما يشاء ويمارس السلطة بطريقة تسلطية، كما أن التاريخ علّمنا أن كثيرًا من المجرمين وسافكى الدماء ومشعلى الحروب الإقليمية والكونية جاؤوا بالانتخابات (هتلر نموذجًا)، أيضًا هناك حالة جرى فيها انتخاب رئيس لدولة لاتينية هى الإكوادور، وكان يدعى عبد الله بوكرم (من أصول لبنانية) ثم اكتشف الشعب لاحقًا أنه مريض نفسى ومن ثَمّ أقدم البرلمان على عزله.
نعم، الانتخابات الحرة النزيهة هى الطريقة الديمقراطية لاختيار الرئيس وأعضاء البرلمان، لكن الانتخابات الحرة النزيهة ليست ضمانة لانتخاب حكام صالحين أو ديمقراطيين، ومن ثَمّ يمكن للشعب (صاحب الاختصاص الأصيل) التدخّل وتصحيح المشهد، وطريقة التدخل تختلف من دولة إلى أخرى حسب درجة التطور الديمقراطى واستقرار التجربة الديمقراطية، ففى الدول المستقرة ديمقراطيًّا والعريقة فى هذا المجال عادة ما يجرى التدخل عبر مؤسسات الدولة، وهو ما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية عندما خان الرئيس الأسبق نيكسون، الأمانة وأصدر الأوامر بالتنصت على الحزب الديمقراطى فى ما عُرف بفضيحة «ووترجيت»، هنا جرى تخيير الرجل مؤسسيًّا بين الاستقالة الطوعية أو التعرّض للمحاكة، فآثر الرئيس الراحل الاستقالة، حتى لا يُدان لأنه خان الأمانة. أما الدول التى لم تستقر فيها التجربة الديمقراطية بعد، فإن الشعب يتدخّل بنفسه مباشرة، وهنا يتعرّض الشعب للخطر، فعادة ما يقاوم الرئيس، المطلوب عزله شعبيًّا، الضغط الشعبى مستعينًا بقوات الأمن وأجهزة الاستخبارات وغيرها، والفيصل هنا أيضًا يكون مؤسسات الدولة التى يمكنها أولًا رفض أوامر الرئيس بضرب الشعب، ويمكنها ثانية الانحياز إلى الشعب وإجبار الرئيس على التنحّى.
رحّبت واشنطن بعزل الرئيس الأوكرانى وشدّدت على شرعية الإنجاز! السؤال هنا: لماذا عارضت واشنطن ما جرى فى مصر؟ أليس ما جرى فى مصر يعد نموذجًا على تطبيق قاعدة شرعية الممارسة والإنجاز؟ لماذا تشيد واشنطن بما جرى فى أوكرانيا وتقف ضد نفس الأمر الذى جرى فى مصر؟! إنها المصالح ليس أكثر، إنها حسابات المصالح الأمريكية التى تجعلها انتقائية من حالة إلى أخرى حسب ما تراه الإدارة من مصالح لها ولواشنطن، إنها المصالح التى جعلت واشنطن تقف وراء قتل الرئيس التشيلى سلفادور الليندى والإطاحة برئيس الوزراء الإيرانى مصدق، ورعاية تاجر هيروين هو مانويل نورييجا فى بنما، وتوفّر الحماية والدعم والسلاح لعتاة المجرمين فى العالم الثالث وتحديدًا أمريكا اللاتينية. نؤمن ببلدنا وبشرعية الإنجاز، ونقدّر دور مؤسسات بدلنا، وعلى رأسها الجيش، فى الانحياز إلى الشعب وتوفير الحماية له من بطش رئيس مستبد وجماعة إرهابية.