برلمان القرم يقيل الحكومة ويصوت على إجراء استفتاء على تقرير مصير الجمهورية
البرلمان الأوكرانى يحث روسيا على عدم تأييد الانفصالية ويطلب من مجلس الأمن مناقشة الأوضاع فى البلاد
الغرب ذهب بعيدًا فى مواجهة روسيا باستخدام القوى اليمينية على حساب دماء الأوكرانيين
فى الساعة الرابعة من صباح يوم الخميس ٢٧ فبراير ٢٠١٤ بالتوقيت المحلى (وهو توقيت القاهرة أيضا) قامت مجموعة مسلحة قوامها ٣٠ شخصًا باقتحام مبنى برلمان ومبنى الحكومة فى جمهورية القرم ذات الحكم الذاتى فى إطار أوكرانيا. وقام المسلحون برفع علم روسيا وجمهورية القرم فوق البرلمان ومبنى الحكومة، وامتنعوا عن الدخول فى أى مفاوضات أو إعلان أى مطالب. وبعد ساعة واحدة، سمحوا لرئيس البرلمان والأعضاء بالدخول وعقد جلساتهم.
جاءت التصريحات من العاصمة الأوكرانية كييف حادة وغاضبة، حيث طالب رئيس البرلمان، القائم بأعمال رئيس الدولة، ألكسندر تورتشينوف بمعاقبة المسلحين الذين اقتحموا المبانى الحكومية والرسمية فى عاصمة جمهورية القرم سيمفروبل. وتجاهل تماما أنه هو شخصيًّا كان يدعو إلى احتلال المبانى الحكومية واقتحام البرلمان خلال الأسابيع الأخيرة من شهر ديسمبر ٢٠١٣، وهو ما تم بالفعل فى منتصف يناير حيث قامت القوى القومية المتطرفة باقتحام عدد من المبانى الحكومية حتى تاريخ ٢٥ فبراير ٢٠١٤، وغادرتها بعد أن قام البرلمان الذى سيطرت عليه المعارضة اليمينية الموالية للاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، بعزل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش من منصبه.
فى ٢٦ فبراير قام برلمان جمهورية القرم بعقد جلسة لتقرير مصير الجمهورية، لكن آلاف المواطنين تجمعوا فى مظاهرة ضخمة أمام البرلمان، واختلفت مطالبهم. فالروس كانوا يطالبون باستعادة حقوقهم التاريخية فى التحدث بلغتهم والبث بوسائل إعلام باللغة الروسية وإقامة مدارسهم بلغتهم الأم. هذه الأمور كان قد حرمهم منها البرلمان قبل ذلك بعدة أيام. بينما كان التتار يطالبون بالبقاء ضمن أوكرانيا على أمل المطالبة فى ما بعد بالانفصال عنها وتنظيفها من الروس والأوكرانيين. أما الأوكرانيون فكانوا يطالبون بالبقاء فى إطار أوكرانيا والخضوع للسلطة اليمينية والقومية المتطرفة التى وصلت إلى الحكم فى كييف.
جمهورية القرم ذات الحكم الذاتى، هى أرض روسية تاريخيا. وفى منتصف خمسينيات القرن العشرين قام الزعيم السوفييتى نيكيتا خروشوف باقتطاعها من روسيا السوفيتية ومنحها لأوكرانيا السوفييتية ضمن التقسيمة الإدارية للاتحاد السوفييتى. ويصل عدد الروس فيها إلى مليون و٥٠٠ ألف، بينما يبلغ عدد التتار ٣٥٠ ألفا فقط، ومثلهم من الأوكرانيين. أى أن تعداد الروس هو ضعف تعداد التتار والأوكرانيين الذين يعيشون فى شبه الجزيرة.
لقد تمكن برلمان جمهورية القرم يوم ٢٧ فبراير من اتخاذ قرارات فى غاية الأهمية والخطورة، حيث صوت غالبية النواب على ضرورة إجراء استفتاء على تقرير مصير الجمهورية، ثم أقالوا الحكومة حيث صوَّت ٥٥ نائبًا لصالح ذلك. وهذا الأمر يسمح بالعمل بدستور عام ١٩٩٢ الذى ينص على وجود رئيس للجمهورية، مما يعنى أن سلطات الدولة تمتلك الحق فى توقيع اتفاقيات مع الدول الأخرى دون الرجوع إلى الحكومة المركزية فى كييف. ثم لمَّح نواب من البرلمان إلى إمكانية إقامة اتحاد جمركى مع روسيا الاتحادية. فى هذا الوقت تحديدا، كان المتظاهرون فى ساحة البرلمان يرفعون الأعلام الروسية ويطلقون صيحات الترحيب بهذه القرارات. وأصبح شعارهم فى تلك اللحظة هو الخيار الواحد: إما الاستقلال الكامل عن أوكرانيا، وإما الانضمام إلى روسيا. وفى الساعات الأخيرة من اليوم، عيَّن البرلمان فى منصب رئيس مجلس الوزراء (الحكومة) زعيم حزب «الوحدة الروسية» سيرجى أكسيونوف. وقال عضو برلمان القرم سيرجى تسيكوف أن ٥٣ برلمانيا أيدوا ترشحه من بين 100 نائب فى البرلمان. وأن الجمعة ٢٨ فبراير سيشهد استشارات سياسية وسيتم الإعلان عن تشكيلة الحكومة الجديدة.
كان يوم ٢٧ فبراير يومًا مثيرا بكل المعاير. فقد صادق البرلمان الأوكرانى فى كييف على ترشيح أرسينى ياتسينيوك، رئيس كتلة حزب (الوطن)، لرئاسة الحكومة الأوكرانية الجديدة. كما أعلن تشكيلة الحكومة الأوكرانية الجديدة التى شغل منصب وزير خارجيتها أندرى ديشيتسا الذى تقلّد سابقا مناصبًا فى السفارتين الأوكرانية فى بولندا وفرنسا، ومن ثم شغل لعامين منصب المنسق الأعلى للمبادرة البولندية الأوكرانية - الأمريكية لتطوير التعاون فى أوكرانيا. ومن الحقائب الحكومية البارزة، ترأس أرسين أفاكوف وزارة الداخلية (الذى كان يقود مجموعات المسلحين لاحتلال المبانى الحكومية فى كييف)، وألكسندر شلاباك المالية، وعُينت لودميلا دينيسوفا فى منصب وزير السياسة الاجتماعية، بينما شغل بافل بيترينكو منصب وزير العدل، وترأس وزارة الاقتصاد بافل شيريميت. كما عين نائبًا آخر لرئيس الحكومة ألكسندر سيتش من كتلة «الحرية». كما ترأس منتمون إلى أحزاب المعارضة السابقة وزارات العدل، والسياسة الزراعية والغذاء، والسياسة الاجتماعية، والبيئة، وعين فى منصب وزير الرياضة والشباب أحد نشطاء الميدان، وعين أحد زعماء هذه الساحة خلال الاحتجاجات فى منصب وزير الثقافة.
وفى نفس اليوم تعالت النعرات الأمريكية والأطلسية فى استفزاز بالغ لموسكو. فقد دعا وزير الدفاع الأمريكى تشاك هاجل إلى احترام سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، والامتناع عن اتخاذ أى خطوات من شأنها أن تُفسَّر بشكل مغاير. وقال هاجل باستفزاز شديد: «أنا أراقب عن كثب تدريبات القوات الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، وآمل أن تؤمن روسيا الشفافية لهذه التحركات.
وفى الساعات الأولى من صباح الجمعة ٢٨ فبراير، قامت وحدات الدفاع الشعبى بالتوجه إلى مطار سيمفروبل، بعد تلقيها معلومات بوجود قوات إنزال أوكرانية ومجموعات قومية متطرفة جاءت للسيطرة على المطار. وقامت بعمليات تفتيش بداخل المطار والمنطقة المحيطة به. لكنها لم تجد شيئا مريبا، فقدمت اعتذارها وغادرت المنطقة. وأعلنت أن هذا الإجراء كان من أجل ضمان سلامة المسافرين المحليين والأجانب، وحماية المنشآت الحكومية والمبانى التى يتردد عليها جموع المواطنين.
استعادت السلطات الأمنية الأوكرانية السيطرة على مطارَى القرم اللذين كانا سيطر عليهما مسلحون، تقول كييف إن لهم علاقات بالجيش الروسى.
وأعلن مدير المجلس الوطنى للأمن والدفاع أندريه باروبيى، «حدثت محاولة للاستيلاء على مطارَى سيمفروبول وسيباستوبول، لكنهما عادا الآن تحت سيطرة القوات الأمنية الأوكرانية».
وكان رد فعل البرلمان الأوكرانى، هو حث موسكو على وقف أى تحركات من شأنها تقويض سلامة أراضى البلاد بعدما سيطر مسلحون على مطارين فى منطقة شبه جزيرة القرم.
وناشد البرلمان مجلس الأمن الدولى لعقد جلسة لمناقشة الأزمة التى تمر بها، وبحث مشكلاتها على ضوء تفاهم عام 1993 الذى وافقت فيه القوى الكبرى على ضمان وحدة أراضى البلاد.
من الواضح أن أوروبا والولايات المتحدة ذهبتا بعيدا جدا أمام ما تصورتاه صمتًا روسيا أو تردد روسى. وبالتالى دفعتا المعارضة الموالية لهما التى أصبحت فى سدة الحكم حاليا إلى اتخاذ قرارات وإجراءات غير مسؤولة فى دولة متعددة القوميات والديانات والثقافات وترتبط بالدول المحيطة بها، وبالذات روسيا، بصلات العِرق والدم والتاريخ والمصالح الأمنية والاقتصادية. ومع ذلك فشبه جزيرة القرم تعيش حالة صعبة، مما دفع سكانها إلى طلب مساعدات إنسانية من روسيا وتأمين حياتهم وحياة أولادهم فى مواجهة المد القومى المتطرف الذى يكاد أن يطيح بأوكرانيا كلها وبمستقبلها.
لقد كان الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة يرحبان بقيام القوميين المتطرفين فى أوكرانيا باحتلال المبانى والمؤسسات الحكومية وتعطيلها عن العمل. بل وأصبح أرسين أفاكوف قائد عمليات اقتحام المبانى فى كييف وزيرا للداخلية فى الحكومة الجديدة. من جهة أخرى قامت وحدات الدفاع الشعبى الروسية فى شبه جزيرة القرم باحتلال برلمان ومبنى حكومة شبه الجزيرة فى العاصمة سيمفروبل. ثم قامت بعملية استغرقت ساعتين فقط فى مطار سيمفروبل، كما أوضحنا أعلاه. علما بأن البرلمان والحكومة والمطار يعملون بشكل عادى ومنتظم دون أى عطلة. ولكن المثير أن رئيس الحكومة الأوكرانية الجديد أرسينى ياتسينيوك الموالى للغرب وعدد من أعضاء الحكومة الجديدة من اليمين القومى المتطرف انتقدوا أعمال وحدات الدفاع الشعبى، وطالب القائم بأعمال الرئيس فى كييف آلكسندر تورتشينوف (أحد قادة عمليات الميدان والهجوم على المبانى الحكومية فى كييف) بمعاقبة المسلحين! بينما يدعو الغرب للتفاوض والجلوس على طاولة المفاوضات!
لم يعد هناك شك أن الولايات المتحدة وكبريات الدول الأوروبية تعتمد الآن على الحركات الدينية والقومية المتطرفة فى تفتيت وحدة الدول الأخرى، وتستخدمها كأدوات داخلية لتنفيذ أجندات أمريكية وأوروبية وأوروأطلسية داخل هذه الدول. وهذا ما يجرى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوكرانيا حاليا. الآن يمكن أن نفهم لماذا ظل الغرب طوال سنوات عديدة يأوى قيادات التنظيمات الدينية والقومية المتطرفة ويدعم الحركات الانفصالية فى الدول الأخرى بينما يقمعها فى دول أخرى!