كل أصدقاء العبد لله كاتب هذه السطور يعرفون حقيقة اعترفت بها أكثر من مرة للقرّاء الأعزاء، وخلاصتها أن ثقافتى الرياضية الكروية منعدمة تقريبًا، حتى إننى بالكاد أعرف أن الكرة «ساحرة مستديرة»، وليست «ساحرة شريرة»، كما كنت أظن.
غير أن ارتباط «الشر» بنشاط رياضى يفترض فيه ترقية النفس وتهذيب الطباع، أمر لم يعد بعيدًا عن الواقع، بل صار -للأسف- من أقوى الحقائق الممضة والظواهر المقرفة التى نعيشها ونعانى من قبحها وبشاعتها منذ سنوات طالت واستفحلت فيها مشاهد العنف الدموى الكروى، حتى إنها فى حوادث عديدة بدت تجسّد نفسها فى أسوأ تجليات الكوارث الوطنية (مثلًا، عار وفضيحة مباراة مصر والجزائر أيام المخلوع وولده، ومجزرة استاد بورسعيد أيام المجلس العسكرى وعصابة إخوان الشياطين).
إذن واضح سبب قفزى فوق جهلى الكروى التليد واضطرارى الآن للكتابة عن تلك الظاهرة التى أعتبرها واحدة من أخطر موروثات عقود الخراب الشامل الطويلة، وأقصد تحديدًا ظاهرة جماعات المشجعين الشباب والفتيان الذين يطلقون على تنظيماتهم العصاباتية اسم «أولتراس»، وأصبح هذا الاسم عنوانًا لسلوك هائج جامح سادر فى العنف والتخريب الجنونى والمجانى لدرجة تجاوزت كل حدود المنطق والعقل، وذلك على النحو الذى رأيناه فى أحدث وآخر الحوادث الدامية التى وقعت الأسبوع الماضى بمناسبة مباراة انتهت بفوز فريق النادى الأهلى على الفريق التونسى الضيف، ومن ثَمّ لم يكن هناك أى داعٍ ولا ذريعة لإطلاق كل هذا القدر من الجنان الدموى الذى أوقع عشرات الضحايا والمصابين، أغلبهم من رجال الشرطة.
والحق أن هذه الحادثة وما حملته من إشارات والمزيد من الأدلة على تفاقم ظاهرة جماعات «أولتراس» ومدى انفلاتها ومستوى الخطر المشحون فيها، ليست كل أسباب حماسى واهتمامى بالموضوع، وإنما السبب الأهم هو أنه لم يعد سرًّا أن كثيرًا من هذه الجماعات وجدت مَن يوظّف بعضها أو أغلبها ويستخدم جموحها الطائش فى حرب الإرهاب والتخريب والإجرام التى تشنّها علينا حاليًّا عصابة إخوان الشياطين الفاشية وتوابعها القتلة.
ولكى لا نسرف على أنفسنا كثيرًا ونذهب بعيدًا فى جلد الذات، فإن ظاهرة جماعات «شغب الملاعب» الهوجاء المنظمة لا نتفرّد بها وحدنا فى هذا العالم، بل الحقيقة أننا استوردناها من بلدان ومجتمعات بعضها يجلس فوق قمة التقدّم السياسى والاقتصادى والاجتماعى، أشهرها وأهمها بريطانيا التى كما اخترعت رياضة كرة القدم، كان لها فضل السبق فى إفراز ظواهر «المشجعين الصِّيَّع» الذين يتوسّلون بعنف رهيب طليق من أى روادع أو كوابح من أى نوع.
وأظننى لن أضيف جديدًا للمثقفين الكرويين (الذين أحسدهم كثيرًا) إذا أشرت فى هذا السياق إلى كوارث بشعة وجرائم يُندى لها الجبين ارتكبتها عصابات من نوع الـ«هوليجانز» التى اجتاحت الملاعب البريطانية على مدى عقود طويلة (حتى تسعينيات القرن الماضى) وفاضت دمويتها وتخريبها حتى عبرت الحدود، وقد سجَّل التاريخ تحت اسمها حوادث شنيعة أشهرها كارثة استاد هيسل البلجيكى التى وقعت يوم 29 مايو عام 1989 عندما نفّذ الـ«هوليجانز» الإنجليز من مشجّعى فريق نادى ليفربول مجزرة راح ضحيتها 39 قتيلًا وأكثر من 600 جريح، أغلبهم مشجعون لنادى يوفنتس الإيطالى المنافس للفريق الإنجليزى فى نهائى كأس الأندية الأوروبية، ورغم أن هذه الكارثة تسبّبت فى حرمان جميع أندية بريطانيا من المشاركة فى المسابقات الأوروبية لمدة 5 سنوات متصلة، ومع ذلك بقيت جماعات الـ«هوليجانز» تمارس شرورها حتى ارتكبوا فى بلادهم بعد أقل من 4 سنوات (عام 1989) مجزرة أخرى أشد هولًا ودموية عندما كان فريقا ليفربول ونوتنجهام فوريست يتباريان ضمن مسابقة كأس إنجلترا، وقد خلّفت هذه الحادثة 96 قتيلًا وأكثر من 750 جريحًا.
بعد هذه المجزرة، وبعدما بدا واضحًا أن عصابات الـ«هوليجانز» اختلطت وتزاوجت بجماعات اليمين العنصرى المتطرفة وباتت مخزنًا بشريًّا لهذه الجماعات غير الشرعية (كما هو حاصل عندنا تقريبًا الآن) أخذت السلطات البريطانية الأمر مأخذ الجد وتحرّكت بسرعة لحصار هذه الظاهرة ومنع انتشارها وتفاقمها والقضاء عليها، وكانت بداية التحرّك تشكيل لجنة ترأسها قاضٍ يُدعى لورد تايلور، وضعت تقريرًا مهمًّا ووافيًا تضمن وصفًا وتشريحًا علميًّا دقيقًا للظاهرة وأسبابها والعوامل التى تغذّيها، كما انتهى التقرير إلى اقتراح 17 توصية لعلاجها واجتثاثها والوقاية من مخاطرها.. هذه التوصيات نفّذتها السلطات الحكومية بدقة وصرامة، مما أدّى إلى تراجع وتآكل مضطرد وواضح فى حوادث العنف وشغب الملاعب هناك.
و.. أظننا الآن فى أمس الحاجة إلى تحرّك سريع يستلهم هذه التجربة قبل فوات الأوان.