كأن ما تفعله إثيوبيا وبناءها لسد النهضة هو نوع من العقاب الإلهى الذى سيحلّ بنا، لأننا لم نصن النعمة، ولم نحفظ حق الحياة التى وهبها لنا النيل، هذا الفارس الذى يمضى منفردًا، ليصنع لنا وجودًا وتاريخًا وحضارة، لقد اعتدينا عليه وأهنّاه ونوشك أن نقتله تمامًا، نقتل مستقبل أطفالنا، نحن بلد النهر الواحد، وهو وضع لا نُحسد عليه، فمصير كل هذه الأفواه الجائعة التى لا تكف عن التكاثر معلّق بشريان وحيد يوشك أن ينقطع، ولن نتمكّن من خوض حرب للحفاظ عليه، وحتى إذا حُلّت مشكلات الجنوب، وهى لن تُحل بسهولة، فلن نفوز إلا بنهر ميت. فى الميثولوجيا المصرية القديمة، يقف المتوفى فى يوم الحساب أمام الآلهة ويقسم أنه لم يرتكب جرمًا عظيمًا، لم يلوّث مياه النيل، هذا هو الذنب الأعظم الذى يمكن أن يحرمه من نعمة الخلود، نحن جميعًا مدانون أمام آلهة مصر القديمة، لأننا نلوّث النهر كما لم يفعل أى جيل من تاريخنا الممتد، نحن الأسوأ لأننا نلقى فيه عمدًا بكميات من السموم والمخلفات البشرية والحيوانات النافقة والأحجار والرمال وكتل الأسمنت، كما لم يفعل أحد من قبل، لقد حرمنا أنفسنا من أى نوع من المياه الصافية، حتى الذين لديهم المقدرة المالية على شرب المياه المعبّأة داخل الزجاجات لا ينجون من ذلك، فمياه النهر الملوّثة تتسلّل إلى طبقات المياه الجوفية.
لا ينجو جزء من النهر من جريمة التلوّث، فهو يتلقّى يوميًّا 270 طنًّا من الملوثات العضوية، ويبتلع سنويًّا نحو 4.5 ألف طن من الملوثات الصناعية غير المعالجة، من بينها 50 ألف طن مواد شديدة الضرر على الصحة ولا تفيد معها المرشحات العادية أو أجهزة التنقية المستخدمة فى المنازل، ولا يتوقف الأمر على المصانع التى ترتبط مع النيل بأقنية مباشرة تصرف فيها ما تشاء دون أى نوع من الرقابة، ولكن هناك أيضًا مخلفات المستشفيات، وهى مواد فى غاية الخطورة، هذا غير المواد الصلبة التى يقذف بها الطامعون فى اختلاس قطعة من الأرض، وهم أسوأ أعداء النهر، خصوصًا عندما يقومون باستخدام القمامة فى عمليات الردم، تلوّث النهر وحده يكلّف الحكومة ما يعادل 3 مليارات جنيه بشكل مباشر، أى 6% من الناتج القومى المنهك أصلًا، هذا غير الأمراض التى تصيب المصريين بأمراض مستعصية.
الملوثات التى تخترق جسم النهر تحدث من خلال 290 ثغرة على طول مجراه، لذا فكلنا شركاء فى نفس الجريمة، فى أقصى الجنوب فى أسوان توجد ترعة «كيما» وهى تأخذ اسمها من إحدى شركات الكيماويات، رغم أن الشركة تنكر أى صلة لها بالتلوّث، فقد حفرت فى بداية الأمر لتلقّى السيول التى تهدّد مدينة أسوان، ثم تحوّلت إلى مستودع للقمامة والمخلفات والحيوانات النافقة، وتصاعدت منها رائحة نفّاذة تصل إلى أنوف أهالى المدينة والسائحين الذين يزورونها، تصب كل ملوثاتها فى مجرى النهر الذى نشرب منه جميعًا، ورغم أن هناك خططًا لتحويل مسار هذه الترعة بحيث تصب فى أحد الأودية وتغذّى غابة شجرية، فإن عشرين عامًا لم تكن كافية ولم ينفذ إلا جزء ضئيل من هذا المشروع، وفى شمال الوادى تتضاعف حدّة التلوّث، فيتعرّض فرع رشيد إلى مصدر مستمر للتلوّث، ترعة ضخمة للصرف الصحى تصب مياهها مباشرة فى النيل، بما تحمل من ملوثات وبقايا آدمية صلبة، يعيش على ضفاف فرع رشيد سكان سبع محافظات كاملة، يشرب أناسها جميعًا من هذا الماء الممتزج بالمجارى، وقد بلغ الأمر ذروته محافظة كفر الشيخ التى تنتج 40% من الأسماك فى مصر، فقد تسبّب تلوّث المياه فى كارثة نفوق عشرات الأطنان من الأسماك، وحتى أسماك المزارع الموجودة داخل الأقفاص لم تسلم من الموت، والسبب المباشر هو طريقة الصيد الجائر التى يمارسها بعض الصيادين الذين يستخدمون المبيدات الحشرية فى الصيد، يطعموننا السمك مسمَّمًا، وقد تسببت طريقتهم فى زيادة نسبة الأمونيا فى النهر ونفوق جميع أسماكه، إضافة إلى التصريف اليومى لكميات كبيرة من الزئبق والرصاص وغيرها من المخلفات القادمة من المصانع، ولم تملك السلطات أمام هذا الأمر إلا أن تفتح قناطر «إدفينا» لتصرف المياه الملوثة إلى عرض البحر كحل أخير وعاجز.
الأمثلة كثيرة ومرعبة، وكلها من صنع أيدينا، ونتيجتها واحدة، النهر مريض ويحتاج إلى تدخّل سريع، إلى حلول ناجعة، أن نوقف عملية الانتحار البطيئة التى نمارسها ضد أنفسنا وضد المستقبل، ولا بد من اتخاذ عدد من الإجراءات المهمة:
أولًا: اعتبار تلوّث النهر جريمة كبرى، لا تسامُح فيها بالنسبة إلى الأفراد أو المؤسسات، العقوبة الرادعة هى السبيل الوحيد لوقف الاعتداءات التى لا تتوقّف، ولن يتأتى هذا إلا برفع شأن وزارة الرى وجعلها وزارة سيادية بدلًا من الدور الهامشى الذى تلعبه فى حياة النهر، يجب دعمها بالخبرات الفنية والقانونية للقيام بمهمتها، وأن تكون صلتها مباشرة بالرئيس الأعلى للبلاد، فهى أهم كثيرًا من وزارة الخارجية التى تستهلك الأموال فى المراسم والاستقبالات، وأن تعطى لمفتّشى الرى ومهندسيه السلطة القضائية لوقف أى مخالفة على النهر، وأن يكون للنهر حرم لا يُستباح، فلا يُبنى على ضفافه أى مبنى مهما كان نوعه إلا بعد دراسات مستفيضة، لقد ابتعدت هذه الوزارة كثيرًا عن تأدية دورها، وتركت النهر لكل نوازع الانحطاط فى الذات المصرية، وعليها أن تفعل شيئًا لإنقاذ النهر الذى كنا نقدّسه يومًا.
ثانيًا: النهر العجوز فى حاجة إلى صيانة تعيد له الحياة، مجرى النهر فى حاجة إلى نظافة عاجلة، وكذلك الترع الجانبية، ورد النيل يمثّل خطرًا كبيرًا على حركة الملاحة، ويزيد من كمية بخر الماء، وكذلك زيادة حركة السفن التى تلقى بمخلفاتها فيه، لقد كان نصيبنا فى المياه 55 مليار متر مربع فى الخمسينيات، وكان تعداد السكان لا يزيد على 20 مليون نسمة، نحن الآن نفوق التسعين مليونًا وما زالت كمية المياه كما هى، أى أن كل قطرة من الماء قد أصبحت ثمينة، ويجب أن نزيد من كفاءة استخدامها، لقد أصبحنا نعانى من الشحّ المائى، ولو استمر الأمر على هذا الحال، حتى دون سد النهضة، سنموت عطشًا.
ثالثًا: نريد وعدًا محددًا من أى رئيس قادم أن يكون النيل على جدول أولوياته، كل الفراعنة العظام اكتسبوا هذه الصفة، لأنهم قاموا بمشاريع مهمة على النيل، الفرعون بسماتك حاول حفر قناة تربط بين النيل والبحر الأحمر، محمد علِى أنشأ القناطر الخيرية، ونجله الخديو إسماعيل مدّ الترع إلى الإسكندرية ومدن القناة، وعبد الناصر أنشأ السد العالى، وكاد مبارك أن يكون فرعونًا عظيمًا حين أنشأ مشروع توشكى، ولكنه تخلّى عنه وفضّل أن يتحوّل إلى ديكتاتور صغير، النيل فى حاجة إلى مشروع عظيم ونهر جديد أيضًا، لا يجب أن نقاوم وصل مشروع نهر الكونغو بالنيل كما يحاول وزير الرى فى عناد لا معنى له، ويجب أن نستفيد من النيل الأبيض الذى لا يصل لنا منه إلا قطرات قليلة.
النيل فى حاجة إلى مَن يأخذ بيده لا إلى مَن يقتله، ولا أريد أن نكون نحن الجيل الذى قتل النيل.