قبل 25 يناير كان المصريون المسيحيون فى حالة عزوف عن المشاركة فى الحياة السياسية، لكن موقفهم تغير اعتبارا من هذا اليوم فى عام 2011، حينما نزلوا إلى الشارع رفضا للفساد والاستبداد، وفعلوا هذا بصفتهم الوطنية كمصريين. ولم يكن لهذا التغير الذى انتهجوه أى علاقة بالدين من قريب أو بعيد. ولأن المرأة كانت عنصرا فاعلا فى الحراك السياسى، لهذا لم تغب النساء المسيحيات عن المشهد. وأخذ هذا الموقف يتفاعل بإيقاع إيجابى سريع، إذ أصبحت المرأة المسيحية فى مصر فى الوقت الراهن بعد 25 يناير و30 يونيو عظيمة بين نساء العالم، ومجيدة بين المصريات المجيدات، ورائعة إن كانت عادية بسيطة فى مكانتها الاجتماعية ومستواها التعليمى. وحتى لا يكون فى هذا الرأى مبالغة، يمكن من خلال قراءة الواقع ملاحظة هذه الحقيقة، التى تؤكد هذا التحول الجذرى. لكن قبل أن تتم هذه القراءة من الأهمية بقدر، للتذكرة والمقارنة، رصد عزوف المصريين المسيحيين عموما رجالا ونساء عن المشاركة فى الشأن العام السياسى فى ما مضى منذ عقود طويلة. وكان الأمر يقتصر فى ما يخصهم على تعيين عدد منهم فى مجلس الشعب أو الوزارات المختلفة مع كل تغيير، استكمالا لديكور عدم الإقصاء، وفى ترضية لهم من السلطة كى تبدو متوازنة مع الرعية.
أما عن المرأة المسيحية تحديدا فقد كان موقعها متدنيا للغاية فى السلم الاجتماعى والسياسى، مع بزوغ وهيمنة الإسلام السياسى فى الحقبتين الساداتية والمباركية. فمنذ سنوات طويلة فى عام 1989 كتبت الناشطة الراحلة سناء المصرى فى كتابها «خلف الحجاب» فصلا بعنوان «امرأة ومسيحية وفقيرة.. طوبى لك»، قائلة فى عبارة بليغة: «إذا كان هذا هو وضع المرأة المسلمة فى تصور الجماعات الإسلامية، فكيف سيكون وضع المرأة المسيحية التى تعتبر وفق نسقهم الأيديولوجى عنصرا مضطهدا داخل جماعة مضطهدة؟». هكذا كشفت المصرى أن الشارع الذى تخلت عنه السلطة واحتلت جزءا كبيرا منه القوى الظلامية، كان ينحدر بوضع المرأة، وأن الانحدار فى مداه الأقصى كان من نصيب المرأة المسيحية.
كان أحد مكاسب الحالة الثورية التى مرت بها مصر طوال السنوات الثلاث الأخيرة هو بروز دور المرأة، وفى القلب منه كان معدل التغير لدى المصريات المسيحيات متسارعا فى الوجود بين الجماهير عندما تقتضى الضرورة، لكن المتغير الأهم كان فى التحول النوعى للمرأة العاملة التى أنجزت فى مدى زمنى قليل مكانة مهنية وسياسية حققت بها مكاسب هائلة، فى تغلب سريع على كل الترسبات القديمة من عزوف أو إقصاء. ويمكن تأكيد هذا الوضع الجديد من علامات تبدو فى الساحة المصرية بكل زخمها جليّة وواضحة على عدة محاور، منها النماذج التالية على سبيل المثال لا الحصر :
أولا: ميدانيا: ظهرت فى النضال السياسى على الأرض دون تغيب طوال السنوات الثلاث الماضية سالى توما. ورغم ما اعترى آراءها من جنوح راديكالى فى بعض الأحيان، فإنها تظل ذات مكانة معتبرة فى العمل الثورى. وتقول سالى «إذا كنت مقتنعة بمبررات المظاهرة أنتقل للمشاركة، وإذا لم أكن فإننى أذهب فقط فى حالة وجود عنف ضد المتظاهرين، لتوفير مظلة حماية لهم، وحتى لا يتهم أحد الثوار بالجلوس فى منازلهم». وتعكس نظرتها المستنيرة والمتفتحة للمرأة الجديدة موقفا تقدميا، وهنا تقول: «نتطلع وستأتى لحظتنا، فلن يستطيع أحد إجبار المرأة المصرية على أى شىء ضد إرادتها، فلقد كسرنا حواجز الاهتمام بما سيقوله الناس».
ثانيا: سياسيا: رغم ما يعترى الأحزاب السياسية فى مصر من هزال نتيجة التجريف السياسى الذى شهدته طوال عهد مبارك، والاختلالات الهيكلية داخل الأحزاب القديمة والجديدة فإنه وللمرة الأولى فى تاريخ العمل الحزبى تتولى هالة شكر الله، وهى سيدة منتخبة رئاسة حزب، ولكون هذه السيدة مسيحية، فهذه دلالة على إيجابية وحيوية دور كان مفتقدا فى مساهمة المرأة فى الحياة السياسية الفعلية غير السلطوية، كما كان الوضع فى الماضى، وهى بهذا تكسر الجمود السياسى الذى كان يحاصر المرأة والواقع السياسى، وكان هتافها الأول بعد ظهور النتيجة لصالحها فى المنافسة على رئاسة الحزب «الدستور طالع طالع للمزارع والمصانع»، بما يتضمنه من انحيازات تجاه القضية الاجتماعية.
ثالثا: مهنيا: نجحت المصرية المسيحية فى مواقع عملها المهنية فى التقدم إلى الصفوف الأمامية واحتلال مواقع المقدمة بين أقرانها، فقد تمكنت حنان فكرى فى احتلال مقعد فى مجلس النقابة العامة للصحفيين، فى سابقة أولى لصحفية مسيحية تصل إلى هذا الموقع بتأييد زملائها، وفى مجلس النقابة العامة لأطباء مصر لحقت بها فى ما بعد الطبيبة التى ذاع صيتها فى أفق المهنة والحياة العامة الدكتورة منى مينا، وصعدت داخل النقابة إلى موقع الأمين العام، فى سابقة أولى أيضا، وأثبتت كلتاهما جدارة فى أداء الواجب الذى تفرضه الضرورات النقابية، وكانت لكل من مينا وفكرى مساهمة رائدة فى الحالة الثورية ما بعد 25 يناير و30 يونيو.
لا يمكن إنكار أن المرأة المصرية لعبت دورا كبيرا فى دفع عجلة التاريخ إلى الأمام بعد سقوط مبارك، وشاركت مشاركة حثيثة فى كل وقائع حالة ثورية متواصلة على مدار ثلاث سنوات، دون التفات إلى تكلفة ذلك من تضحيات ومصاعب، وفى فيلق النساء العظيم كانت قفزة المسيحيات هائلة ورائعة.