كنت أنوى استكمال الكلام عن مسلسل النصب الطبى، ثم وقعت حادثة أليمة تستدعى أن يتوقف المرء لحظة ليتكلم عنها. إن النصب الطبى موجود ولن يبرح مكانه (يعنى حيروح فين؟). فلينتظر قليلاً إذن.
منذ فترة صرنا نسمع عن حادث مروع كل أسبوع تقريبًا، لكن الحادث الأخير الذى وقع فى سانت كاترين احتل الصدارة فى الصحف والشبكات الاجتماعية.
شباب كثيرون قاموا برحلات سافارى مماثلة من قبل، لهذا شعر كل واحد منهم بأنه قد لقى حتفه هناك فى الثلوج فى منطقة فرش الأرانب هذه، وهى منطقة تبعد عن (وادى الجمال) بمدينة سانت كاترين بحوالى كيلومترين. ميتة بشعة ولا شك، فنحن لم نعتد السماع عن شخص يموت متجمدًا فى مصر. يمكنك أن تعذب نفسك طويلاً بتخيل متاهة الفئران التى دخلوا فيها، حيث ظلوا يدورون على غير هدى فى مساحة لا تزيد على 500 متر. مصداقًا للقصص التى كنا نسمعها عن الغربيين فى العواصف الثلجية الذين يتجمدون ويموتون على بعد أمتار من خيمتهم. فى النهاية يسقط الشاب أرضًا ويتجمد وهو لا يدرك أنه يموت.. غيبوبة نقص الحرارة تزحف على مخه ببطء فيهذى. ثم يتحول إلى تمثال أزرق كأن ميدوسا من نوع خاص قد نظرت فى وجهه. يقال إن انعدام خبرة الدليل كانت هى السبب فيما حدث.
يصعب تبين الحقيقة فعلاً، وهل هناك خطأ ما هناك شهادات تؤكد أن قوات الجيش تواجدت هناك فى يوم الاثنين ذاته الذى صدرت فيه الاستغاثة، وهناك صور لقوات الجيش تفتش المنطقة.. صحيح أن الصور تظهر أفرادًا فى منطقة مشمسة لا ثلج فيها، لكن لا داعى للتذاكى.. أصحاب هذا الرأى يرون أن هناك محاولة سياسية لاستغلال الحادث لإحراج الجيش، أى أنه صيد فى الماء العكر. ويصيحون كالعادة: «كفوا ايديكم عن مصر.. كفاكم مزايدة».
الرأى الآخر يقول إن هناك إهمالاً واضحًا، وان فيلم (فبراير الأسود) لخالد صالح قد تكرر حرفيًا.. هل معكم أجانب؟.. لا؟.. إذن ما نعطلكوش بأه.. سوف نأتى فيما بعد لنقل الجثث. وفى النهاية كانت طائرات الهليوكوبتر متوافرة لتصوير مظاهرات 30 يونيو ولإلقاء الأزهار على المتظاهرين.. لكنها غير مخصصة لإنقاذ شباب يتجمدون.
بالطبع لا يملك المرء القدرة على تبين الحقيقة.. الانحياز السياسى يلطخ زجاج الحقيقة فلا تعرف ما حدث أبدًا. هناك شهادتان متناقضتان. لكن الملاحظ كذلك أن تلك القسوة المعهودة قد عادت لدى المعلقين: هما راحوا هناك ليه؟.. كيف يتواجد شبان وشابات فى الجبل وحدهم؟.. كأن الشباب استحقوا الموت متجمدين بسبب هذا الخطأ. والسؤال هنا: هل كنت ستتعاطف لو كانوا رجالاً فقط؟
عندما وقعت واقعة ست البنات، انهالت الشتائم على البنت لأنها لبست العباءة على اللحم وكانت تمثل دورًا مرسومًا.. الخ.. الاخوان قالوا هذا وقتها وكانوا يدافعون عن الجيش. اليوم انقلبت الآية وصار أنصار الجيش خصوم الأخوان هم من يتهمون الشبان الموتى بكل تهمة ممكنة!
لا يمكن تبين الحقيقة، لكن هذا لن ينسينا الحقيقة المروعة: بالفعل لا ثمن للمصرى فى مصر. حقيقة قديمة قبل هذا الحادث. منذ أعوام طويلة -فى التسعينيات- كان هناك حادث شنيع وقع فى البحر الأحمر، حيث كان بعض الشباب من طلاب الجامعة يقومون برحلة، ثم ركب فتى وفتاة زلاجة أو شيئًا من هذه الأشياء الشيطانية التى تنطلق بسرعة فى البحر.. لا أفهم هذه الأشياء.. المهم انهما ابتعدا جدًا.. ابتعدا حتى ضاعا فى البحر تمامًا. لحسن الحظ كان هناك هاتف محمول مع الفتى، وقد اتصل بمرشد الرحلة يخبره أنه ضل طريقه فى البحر وعليهم ان يرسلوا له النجدة. هنا بدأ التراث المصرى العريق يمارس مهمته الخالدة. لا أحد يهتم.. خفر السواحل لن يبحثوا ولن تحلق أى هليوكوبتر بحثًا فى البحر، ولن يتابع أحد إشارة المحمول. عاش زملاء الشابين أقسى لحظات حياتهم وهم يسمعون الفتى يستغيث.. وتمر الساعات.. ينفد شحن الهاتف.. يتلاشى الصوت نهائيًا. ضاع الشابان فى البحر وبالتأكيد صارا وجبة لأسماك القرش. أعتقد أن هذه المأساة كان يمكن تفاديها بطائرة هليوكوبتر واحدة تحمل حبلاً. لكن المشكلة هى ان المصريين كثيرون جدًا وبالتالى لا ترى الحكومات لهم ثمنًا...
فى عصر مبارك كتبت عن حادث غريب، عندما تعطل مترو المرج حلوان فى محطة طرة البلد لأن مواطنًا مستهترًا قام بشد فرملة الطوارئ. الفكرة هنا أن باب المترو انغلق على قدم زوجته الحامل، وبدأ يتحرك وجسدها يتدلى من المترو، مما دفع الرجل إلى هذه المخالفة الخطيرة. الخبر يؤكد فى فخر أن الشرطة قبضت على الرجل وتم تحويله للنيابة التى لم تعطه وسامًا لسرعة بديهته وحسن تصرفه، ولكنها اتهمته باستعمال الفرملة فى غير حالة الخطر!. هذا ببساطة يعنى أن الحكومة لا ترى خطرًا فى أن تسقط أم وجنينها تحت عجلات المترو، فنحن تجاوزنا الثمانين مليونًا والعدد فى الليمون.. فلتأخذنا مصيبة إذن. كل هذا جميل ومفهوم.
تساءلت وقتها: ما الذى تعتبره الحكومة خطرًا فعلاً؟.. سقوط أم وجنينها تحت العجلات ليس خطرًا، فمتى يبدأ الخطر ليعرفه المواطن الصالح ؟. وما نفع الفرملة إذن؟..
لا ثمن لك فى مصر ولا دية.. تصرف على هذا الأساس ولا تتماد فى توقعاتك. تذكر هذا عندما ترى السلك الغليظ العارى الخارج من عمود النور، أو البكابورت المفتوح فى الظلام بحيث لا يراه أحد، أو الشاحنة التى تم تحميلها لدرجة أنها مالت بزاوية حادة على جانبها منذرة بالانقلاب فوق أى شخص. حاول أن تنجو بنفسك فلن يعينك أحد على أى شىء، ولا تقم برحلات سافارى فى منطقة سانت كاترين ما لم تكن بدويًَا.