أحاول التفكير: لماذا كان الخروج الأول للسيسى إلى روسيا؟ الجانب البراجماتى فى السيسى يجعله أحيانًا يفكر بعيدًا عن أحلامه بالرئاسة ومنامات الأوميجا الخضراء.. وحنان البطل الشعبى وصناعة«التقل »على الجماهير المنتظرة المنقذ البراجماتية هنا أهدت إليه التفكير بأن اللحظة لحظة تكون إرادة أخرى فى العالم بعيدًا عن الإرادة الأمريكية المتفردة.. وأن هذه اللحظة مناسبة للالتحاق بالإرادة الجديدة/ التى لا تعادى الإرادة الأمريكية كما كان فى زمن الحرب الباردة/ لكنها تعيد تشكيل
مراكز القوة والضعف... على إيقاع تغيير أكبر« عقل العالم» يضع نهاية للسلطة المطلقة وجبروتها... ويسقط جزءًا كبيرًا من فعالية الطغيان)سواء طغيان القوى العظمى أو طغيان المستبد).
وهذا موضوع كبير يستحق التفكير لا وضعه فى مستنقع المزايدات أو استدعاء فرق زفة سيدى المستبد التى كادت تغنى للسيسى لحظة عودته ضربة كانت من معلم.. ضربة خلت الاستعمار يسلم..وتداعت الأخبار والتهويلات عن صفقات السلاح وأهمية الجاكت بالنجمة الحمراء الذى اهداه بوتين للسيسى... وحتى الآن ما زال الجدل دائرًا من منطق «صناعة الوهم..والحقائق موجودة سواء على مستوى صفقات السلاح .. يرتبط باتفاقات مصر مع أمريكا والتزام روسيا بالتوازن الاستراتيجى»أو فى الجاكت )يخص فريق الأيس هوكى... لا شىء أكثر من ذلك).
التهويلات حولت رحلة قامت على براجماتية خالصة الى«حدث تاريخى»وهو ما كان يفعله الإخوان بالضبط حين صوروا أن رحلة المرسى إلى روسيا « ضربة معلم » بينما لم يدركوا أن بوتين لا يمكن أن يستقبل رئيسًا قادمًا من جماعة مصنفة على أنها إرهابية).
المشكلة أيضًا فى أن الوعى البراجماتى بعلاقة مصر بالعالم/ يتحول إلى جزء من الخزعبلات مع العجز شبه الكامل لمؤسسات الدولة وترهلها/ وغياب القدرة على إيجاد الحلول... وهذا ما يحتاج إلى التفكير فيه بقوة: كيف سيتفاعل البراجماتية القادمة من عالم العسكرية، والأمر الواقع مع الوعى السياسى المرتبط بالمنامات ويتأثر بطبول الزفة والموالد التى تصنع المستبد؟ هل تذهب كبراجماتى إلى روسيا بحثًا عن تأييد ودعم لمناماتك؟ وماذا سيفعل لهذا فى ظل انفلات المؤسسات واندفاعها المميت نحو تحصين شيخوختها؟
ولأننا لا نخوض هذه الأحداث بعيدين عن العالم حاولت فى افتتاحية السفير هذا الأسبوع وضع بعض ملاحظات للتفكير:
1 تخرج الجثث من القبور... تريد أن تشكل طبقتها السياسية الجديدة الطبقة القديمة لم تعد صالحة للاستخدام السياسى. لكن الطبقات الجديدة تتبادل تعاويذ الجثث... التى تسد الممرات أمام الأحياء الذين خرجوا بدون تنظيم ولا «حرب استيلاء على السلطة».خرجوا بهذه القوة المبعثرة لتدخل جولات فى حرب الجثث... جعلت( الداخل ) جحيمًا ينظر إلى الخارج تلك النظرة المزدوجة بين الإنقاذ والخطر.
وكما أن العلاقة بين الداخل والخارج لم تعد فى سيرها الخطى. فإن خطابات حرب الجثث تستخدم البلاغة القديمة فى الإيحاء بأن اللعبة نفس اللعبة، وكأن زيارة السيسى لروسيا مثلًا ضربة فى وجه أمريكا/ وليس توسيعًا للعب فى نفس الملعب، فلم تعد روسيا شرق وأمريكا غرب/ كما لا يمكن تجاوز الخطوط المتشابكة لتوازنات العالم والإقليم على إيقاع الماضى الذى يتشكل فيه عالم جديد.
الخارج ليس مرتبًا وهو يستقبل العالم الجديد المتوقع، لأن التشكل يتم بعيدًا عن مراكز صراعاته/ أى أن العالم يتشكل ليس بتغير أقطابه، لكن بالحركة فى الأطراف، بمعنى أنه لن يتم التغيير بسقوط إمبراطوريات بعد حروب ساخنة مثل الحرب الثانية أو باردة التى انتهت بسقوط الاتحاد السوفيتى.. التغيير الآن تفرضه الأطراف البعيدة...وهذا ما يصعب الأمر على الجميع.
-2 ذلك الخارج العجيب يحرك ألواح القوى، التى وصلت إلى حالتها الصفرية. ويتلقى اللعنات.. والشيطنة. هكذا فى الاسبوع واحد كان يمكن أن نرى الحكومة تتشكل فى بيروت بقوى دافعة دولية وإقليمية. كما يتحرك الرجل الأقوى فى مصر باتجاه روسيا مصحوبًا بأساطير ستينيات باندونج وكتلة عدم الانحياز، وتنويع مصادر السلاح... وهى الكتالوج الوحيد الذى يمكن استعارة بلاغته الفياضة من الماضى إلى الحاضر بدون مصفاة تحلل الاختلافات بين لحظتين إحداهما ماتت والأخرى لم تولد بعد.
الحركة تجاه الخارج من السيسى كانت تقريبًا أول خروج من مشهد تتصارع فيه ديناصورات لا ترى بعضها... وكل منها يستدعى الماضى ووابلًا من اتهامات بالخيانة والعمالة وإغراق برطانات عن الوقوف أمام الغرب أو الحرب دفاعًا عن الله...ولأنها مجرد رطانات أوصلت الصراع الى روتين يستنزف العواطف بلا فعالية تجاه المستقبل.
وكما أن تشكيل الحكومة فى لبنان كان غالبًا نتيجة دفع القوى الإقليمية والدولية كسرت الجمود الذى وصل إليه تدافع الواح القوى السياسية فإن التوجه إلى روسيا إعلان باتساع مساحة تأثير الخارج على الصراع فى مصر.
ولهذا فإن الرسالة التى وصلت أسرع من الجميع كانت تفجير الأوتوبيس فى طابا. الإرهاب لا يعلن فقط: السياحة ماتت، لكن بأن الموضوع أصبح أكبر من صراع على السلطة... وأكبر من أن تتحكم فيه المؤامرات أو حتى الثورات.
-3 العالم يتغير من هنا تقريبًا...
والسلطة التى كانت تتحكم فى كل شىء سواء فى مركز القوى العظمى أو فى الحاكم المندوب عنها فى بلده. أصبح من الصعب استخدامها هكذا مثلًا فأوباما فى سوريا لم يكن مثل بوش فى العراق/ والسيسى وقبله مرسى فى مصر ورغم أن السلطة بيديهما فإنهما ليسا مبارك... ولا سلطتهما الرسمية أو الفعلية بنفس الجبروت. فالجلوس على المقعد الكبير يمكن أن يكون سهلًا لكنه سيكون أضعف الحلقات، وسيضطر إلى استخدام القوة المفرطة/ أو ينزع إلى فاشية لن يقدر عليها، لأنها تستدعى قوة هشة لكنها يمكن تعطيل السلطة أو تحويلها إلى (شبح قاتل ).
ولأنه لا يمكن الوصول إلى اتفاق بين «أشباح» أو حسم الحرب بين الجثث فإن الجديد الملحوظ هو استيعاب الخارج لضرورة تحريك الجثث لا إدارت..لكن كيف سيوثر هذا الاختلاف الطفيف على معادلة الحركة كلها؟ سنرى