من البدهيات المستقرة (رغم كونها كذلك فإن كثيرين لا يفقهونها ولا يعرفونها من الأساس) أن أى حدث، ولو كان جريمة، يمسّ أو يؤثر فى السياسة ليس له وجه واحد وإنما وجوه عدة، كما أن دلالاته يمكن النظر إليها وقراءتها من زوايا متعددة، فأما نتائج الحدث فهى أيضا وبالضرورة تصب فى أكثر من مجرى وليست مسجونة تتفاعل وتتراكم فقط عند طرف بعينه.. باختصار، لكل فعل أو جريمة تقع فى عالم السياسة فيض من الآثار الإيجابية والسلبية التى قد يخالف أو يعاكس بعضها البعض الآخر.
الفقرة السابقة هى مجرد مقدمة لما أريد أن أقوله بشأن جريمة التفجير البشعة التى استهدفت باصًا للسياح فى جنوب سيناء الأسبوع الماضى، وأبدأ بأننى لست فى حاجة إلى تذكير القارئ الكريم بحقيقة العلاقة العضوية بين منفِّذى هذه الجريمة بالذات وباقى عصابات القتل وقطعان التخريب والإرهاب التى أطلقتها علينا جماعة إخوان الشياطين منذ نجاح شعب مصر فى الثلاثين من يونيو الماضى فى نزع شوكتها المسمومة من بدن الدولة والمجتمع بضربة واحدة قاضية وقاصمة وأسطورية، فهذه الحقيقة واضحة مفضوحة ولم تكن موضع شك أو نقاش أصلا، لكن الشياطين من فرط غباوتهم وكراهيتهم العمياء لهذا الوطن شعبًا وجيشًا ودولة، تطوعوا بالاعتراف بمسؤوليتهم المؤكدة عن الجريمة المذكورة عندما أعلنوا فى بيان ممهور باسم واحدة من عصاباتهم الفرعية «جماعة أنصار بيت المقدس»، أن هذه الأخيرة هى -ولا فخر- التى اقترفت تلك الفعلة الخسيسة النكراء!!
غير أننى أريد أن نتأمل معًا ونقرأ الواقعة كلها بطريقة تسمح لنا بملامسة حقيقتين اثنتين أظن أن جريمة تفجير الباص السياحى ألقت المزيد من الضوء الباهر عليهما، أولاهما أن جماعة «إخوان الشياطين»، تحت ثقل وضغط كراهية شعبية هائلة ومتزايدة وواسعة النطاق لم تحظَ بمثلها أى جماعة أو «عصابة» فى كل مراحل تاريخ مصر الحديث، خلعت نهائيًّا أقنعة الكذب والتدليس والتضليل البائسة التى حاولت أن تزيّن بها صورتها الأصلية الكريهة المشوهة، وارتدّت مهرولة لكى تسكن تماما فى سمات وملامح فكرية وحركية وُلدت بها وصنعت منها أسوأ وأوسخ ظاهرة مرت علينا فى القرنين الأخيرين، وجعلتها «أم العنف والإرهاب وأبوه» ومن شقوق مغارتها المظلمة خرجت وتَسَحَّبت وتسربت سائر عصابات المجرمين القتلة المنحرفين عقليًّا والمشوهين روحيًّا وأخلاقيًّا (أمثال «القاعدة» و«داعش» و«واغش» وخلافه) الذين ألحقوا أشد الأذى بسمعة الإسلام والمسلمين فى الدنيا شرقًا وغربًا.
والحقيقة الثانية، أن «إخوان الشياطين» ليست مجرد عصابة إجرام خالصٍ وصافٍ يتسم بالوحشية ولا يتوقف عند أى حدود يفرضها الضمير والأخلاق وما شابه (المجرمون العاديون قد يكون عندهم بقية من هذه الأشياء) وإنما هى فوق ذلك غارقة منذ وُلدت فى حال غربة شديدة عن الوطن استفحلت وتفاقمت حتى صارت الآن عداء سافرًا يتجلى فى آيات نادرة من الحقد والكراهية لم تعد تقوَى على سترها أو التقليل من سفورها وفجورها.. لهذا فمفهوم «الخيانة الوطنية» على بشاعته، لا يبدو منطبقًا على هذه الحالة، إذ يقوم هذا المفهوم على افتراض نوع من «الانتماء» هو أساسًا غائب ولم يكن موجودا فى أى وقت.. والخلاصة، أننا أمام «عدو» صريح وواضح يبحث مدفوعا بالغل والحقد والجنان عما يؤذينا ويضرّنا، حتى لو لم يكن يفيده أو يعود عليه بأى نفع.