أرجوك.. اقرأ بتمعن هذا النص الآتى، لتعرف أن أمتنا وشعوبنا جديرة وتستحق أفضل كثيرًا مما هى فيه الآن:
«أقول وأنا مسلم عربى مضطر إلى الاكتتام (الصمت) شأن الضعيف الصادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الراجى اكتفاء المطالعين بالقول عمن قال: وتعرف الحق فى ذاته لا فى الرجال، أننى فى سنة 1318 هجرية (1899 ميلادية) هجرت ديارى سرحًا فى الشرق، فزرت مصر واتخذتها لى مركزًا أرجع إليه (..) فوجدت سراة القوم فيها كما فى سائر بلاد الشرق، خائضة عباب البحث فى المسألة الكبرى، أعنى المسألة الاجتماعية فى المشرق عمومًا وفى المسلمين خصوصا، إنما هم كسائر الباحثين، كل يذهب مذهبًا فى (تفسير) سبب الانحطاط وفى ما هو الداء، وقد تمخض (واستقر) عندى أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسى ودواؤه ودفعه إنما بالشورى (الديمقراطية) الدستورية..».
هذه العبارات التى قرأتها حالًا كتبها، قبل نحو مئة واثنى عشر عامًا بالتمام والكمال، المفكر العربى المجدد عبد الرحمن الكواكبى (1855- 1902) وذلك على سبيل المقدمة لكتابه العمدة «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى جمع مقالاته وآراءه المعلنة التى قارع فيها وناهض بحزم وصلابة الحكم العثمانى التركى لأقطار أمتنا العربية الذى اشتد استبداده وزادت وطأته على عهد السلطان عبد الحميد الثانى، ما دفع الكواكبى إلى رفع لواء المطالبة بـ«دولة عربية» مستقلة وعصرية تكون مقيدة بما سماه قواعد وأصول «الشورى الدستورية».
لقد دفع الكواكبى الثمن غاليًا لهذه الآراء وذاك الجهاد بالحجة والفكر، إذ لم تكتف السلطات العثمانية الغاشمة بإجباره على النفى والرحيل من بلده «سوريا» ومدينته «حلب» التى كان واحدًا من أبرز رجالها وأعلامها، ولكن ظلت تطارده وتتعقب أفكاره الثورية التقدمية، بجيوش المنافقين وأصحاب العقول المظلمة، حتى مات مقتولا بالسم (على الأرجح) وهو بعد لم يتخط السابعة والأربعين من العمر.
وأعود إلى كتاب «طبائع الاستبداد» الذى اعتبره الكواكبى فى مستهل سطوره أنه «صيحة فى واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدًا بالأوتاد»، فهو يشخص فيه حال الأمة وما تعانيه من مظاهر تأخر مادى وبؤس وانحطاط فكرى وروحى مرجعًا ذلك كله إلى سببين رئيسيين، أولهما الديكتاتورية واستبداد الحكام «الذين من أجل تدعيم سلطتهم الغاشمة المطلقة (يعملون) على إبقاء الناس جهلاء لكى يبقوا خانعين»، كما أنهم يشجعون على إشاعة مفهوم للدين يبالغ فى «التركيز على الآخرة» مقابل إهمال عمدى لمتطلبات الحياة الإنسانية الكريمة التى تؤكدها «مقاصد الشرع».
أما السبب الثانى الذى يراه عبد الرحمن الكواكبى لانحطاط وتأخر بلاد العرب والمسلمين فهو نزوع الفكر الدينى السائد (من أيامه وحتى الآن) إلى «النقل ونكران حقوق العقل، والعجز عن التمييز بين الجوهرى والعرضى فى الدين»!!
و.. أختم ببيتى الشعر اللذين كتبهما حافظ إبراهيم فى الكواكبى وحفرهما تلامذة هذا الأخير وأحِبته على قبره:
«هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التَّقى
هنا خير مظلوم، هنا خير كَاتبِ
قفوا واقرؤوا فاتحة الكتابِ
وسلِّموا عليه فهذا قبر الكواكبى».